بينما يخضع الملايين حول العالم للحظر المنزلى، للحد من تفشى فيروس كورونا الذى «دوّخ» البشرية، يخوض «الجيش الأبيض» من أطباء وممرضين وعاملين فى القطاعات الصحية فى أنحاء العالم حرباً بلا هوادة منذ أسابيع لمواجهة الفيروس القاتل، يبذلون جهوداً تفوق قدراتهم، يُحرمون من النوم للعناية بمن أصابهم الفيروس، معرضين حياتهم للخطر، فى وقت لا يحظون فيه هم أنفسهم فى العديد من الدول بوسائل الحماية الكافية لأداء مهمتهم. هم خط الدفاع الأول فى تلك المحنة التى يعيشها العالم كله الآن، الأمل معقود عليهم لإنقاذ المصابين، جيش من العلماء والباحثين فى علم الأوبئة والفيروسات يسابقون الزمن، يعملون ليل نهار لإيجاد اللقاح الفعال الذى يخلّص البشرية من هذا الكابوس، وإلى ذلك الحين فإن أصحاب البالطو الأبيض هم من يتصدرون مشهد الأحداث المفزعة، مع ازدياد وتيرة تفشى الفيروس وانتشاره على نطاق واسع فى معظم بلدان العالم، فى وقت يواجه فيه القطاع الصحى نقصاً حاداً فى الأطباء والمستلزمات الوقائية وسبل الحماية. يتصدى الأطباء بصلابة وجلد لعدو غير مرئى، وهم يعلمون أنهم فريسة سهلة لانتقال العدوى، يضحون بأرواحهم وراحتهم كى يعيش الآخرون، قمة المعاناة أن يرى الطبيب شخصاً يتألم وهو يقف عاجزاً أمامه لا يستطيع مساعدته ويتركه ليموت.
فى شهادة صادمة ومخيفة روى أحد الأطباء كيف كان الوضع فى المستشفى الرئيسى بلندن، وكيف كان الأطباء والممرضات عاجزين وهم يشاهدون المرضى يموتون. تلك مقتطفات منها.. يقول الطبيب: «كنا نظن أن خدماتنا الصحية معدة لتحمل الفيروس التاجى، لكن الأيام القليلة الماضية جلبت لنا حقيقة مخيبة للظن، فهل سبق أن رأيت شخصاً يلهث لآخر أنفاسه؟ بالنسبة لأولئك الذين شهدوا الموقف لن يتمكنوا من نسيانه للأبد ولا نسيان حالة الرعب المتزامنة معه.. أتمنى أن أنسى كل وجوه الموتى التى رأيتها الأسبوع الماضى. الذعر الذى ظهر على الوجوه، الصوت المضطرب الذى يصدر عن المرضى وهم يحاولون بيأس للحصول على الأكسجين، ويفشلون فى إيصاله لرئتيهم».
«أنا طبيب، أنا مدرَّب على إخفاء الذعر الذى يأتى إلينا جميعاً فى أوقات التوتر الشديد، لكن لم أتمكن من ذلك هذه المرة. كان الجميع يصرخ فى وجهى باستمرار: يا إلهى، ما الذى يحدث؟»
«لم يكن هناك وقت للهدوء، لأنه سرعان ما أصبح لدينا جناح كامل من مرضى الفيروس القاتل الذين يجب عزلهم عن بقية المرضى. لكن لم نستطع السيطرة على المرض، وانتشاره فى المستشفى كان مسألة وقت». «كنت أعمل لمدة 9 ساعات متواصلة بمعدة فارغة، لم أتمكن من الأكل، بعد ذلك أخذت قسطاً صغيراً من الراحة. كنت على يقين أنه لن يكون هناك وقت للراحة بعد وفاة أول حالة. وقد بدأ المصابون بالظهور، انطلقت صفارات إنذار المستشفى. هرعت بين الأجنحة لأتلقى تنبيهات من جميع أنحاء المستشفى. ومع كل اكتشاف حالة جديدة، كل ما سمعته كان صوتى الداخلى يصرخ بصوت أعلى: لا، لا، لا، لا. أرجوك يا إلهى».
هذا جزء يسير من معاناة جماعية يعيشها الجيش الأبيض بكافة أنواعه القتالية، ببطولة وتضحية وشجاعة، يتفانون لإنقاذ المصابين، ينسون أنفسهم فى خضمّ الفوضى والذعر اللذين يعايشونهما، ومهما كان الحذر يصابون أيضاً بعدوى الفيروس القاتل، فالإحصائيات التى خرجت من منظمة الصحة العالمية أشارت إلى أن أكثر من 15% من الأطباء قد ماتوا متأثرين بعدوى فيروس كورونا، حالة الإنهاك والعمل كخلية نحل لا تتوقف عن العطاء، أنهكت القطاع الطبى الذى يواجه وباء لم يعرف التاريخ له مثيلاً. صور مفزعة متداولة بكثرة للطاقم الطبى، تُظهر ندوباً وتقرحات على وجوه المسعفين، وفى إيطاليا تحولت صورة التقطها ممرض لزميلته المنهكة إلى أيقونة جسّدت التضحيات التى يقدمها العاملون فى القطاع الصحى، فبعد يوم عمل شاق، لم تجد الممرضة «إيلينا باغليرينى» سوى لوحة مفاتيح حاسوب لتسند رأسها عليها وتأخذ قسطاً من الراحة. ويوماً بعد يوم تتوالى الأخبار السيئة عن سقوط العديد من هؤلاء فى معركتهم على الخط الأمامى لمواجهة كورونا بعد أن انتقل إليهم المرض. وفى المنطقة العربية تبدو معاناة الفرق الصحية من أطباء وممرضين مضاعفة، فى ظل ضعف الإمكانات وقلة المخصصات التى تحظى بها قطاعات الصحة، يخوضون حرباً شرسة للتصدى للجائحة. تتشابه الأوضاع فى مستشفيات العالم، ومخاوف العاملين فيها، يروى الأطباء القصص نفسها عن الضغط النفسى والبدنى الذى يتعرضون له، خاصة فى ظل نقص معدات الوقاية، ما يجعل حياتهم معرضة للخطر، فيما انتشرت صور لأطباء يحملون لافتات مكتوبة بلغات مختلفة بينها العربية: «نحن فى المستشفى من أجلك، أرجوك ابق فى المنزل من أجلنا».