"القطاع المصرفي".. حائط الصد الأول ضد تداعيات "كورونا"
فاعلية السياسة النقدية كبحت "التضخم"
محمد الإتربي رئيس بنك مصر
شهدت حسابات الأمن القومى لدى الدول اختلافاً كبيراً عما سبق، حيث كانت تقيس البلاد أمنها القومى خلال العقود الماضية بقدراتها التسليحية المتطورة وما تمتلكه من طائرات وأساطيل بحرية، ومع دخول القرن الحادى والعشرين، أصبحت مفاهيم الأمن القومى أكثر ارتباطاً بالقدرات الاقتصادية للدول، ومدى توافر السيولة المالية والسلع وقت الأزمات، ودرجة تشابك الدولة مع العالم الخارجى، وما له من دور فى تأمين قنوات التعامل مع الأسواق العالمية.
وأثبتت هذه النظرية صحتها مع تصاعد تداعيات أزمة فيروس كورونا عالمياً وتأثيرها بشكل مباشر على الأمن القومى للدول المتضررة، حيث كانت الموارد الاقتصادية للدول، بما تتضمنه من بشر، أول المهددين، فى وقت لم يكن للدبابات والتسليح المتطور دور فى تخفيف تداعيات الأزمة، كان خط الدفاع الأول هو قوة المنظومة الطبية بجانب صمود اقتصاديات الدول أمام الأزمة لأطول فترة ممكنة.
بناء احتياطى نقدى تاريخى كان الضمانة الأولى لتوافر السلع فى السوق رغم ظاهرة "الشراء من أجل التخزين"
ويمكننا استشعار ذلك بشكل واضح على المستوى المحلى إذا تخيلنا السيناريو الأسوأ فى ظل الأزمة الحالية، فماذا لو كانت مصر تمتلك قطاعاً مصرفياً هشاً، أو بنكاً مركزياً ضعيفاً، أو قيادة مرتعشة الأيدى فى اتخاذ القرارات، أو سيولة نقدية ضعيفة واحتياطياً منخفضاً؟
تعنى هذه المؤشرات أن الاقتصاد المصرى كان سيواجه بالتأكيد تداعيات لا يمكن تصورها، يصعب على أى إدارة التعامل معها، حيث كانت ستواجه الدولة نقصاً حاداً فى توافر السلع، وارتفاع التضخم لأعلى مستوياته، وانهيار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وبجانب ذلك تحصل مصر على تصنيفات ائتمانية ضعيفة تمنعها من الاعتماد على الديون أو الاستثمارات الساخنة فى سد احتياجات شعبها.
ولكن فى الواقع؛ ظهرت الأزمة عقب فترة إعداد قوية للاقتصاد المصرى خلال برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى دام نحو ثلاث سنوات، لعب خلاله القطاع المصرفى دوراً رئيسياً فى دعم الاقتصاد، وتمكن من ضبط السياسات والمؤشرات النقدية بشكل قوى، ليصبح فيما بعد حائط الصد الأول للاقتصاد المصرى أمام الأزمات.
البنوك تتحرك بمبادرات فردية وجماعية لدعم المتضررين وتواصل دورها المجتمعى رغم التحديات
وأسفرت هذه الجهود التى قام بها «المركزى» عن رفع استعدادات الاقتصاد المصرى لمواجهة هذه الأزمة، حيث ظهرت الأزمة وكانت مصر تمتلك احتياطياً نقدياً قوياً يتعدى الـ45 مليار دولار يغطى واردات مصر لمدة 8 أشهر، ويمكّنها من الوفاء بالتزاماتها من مدفوعات الديون، ومعدلات تضخم عند مستويات قياسية تجعل مستويات الأسعار فى حدود آمنة.
ظهرت الأزمة وكان للبنوك العاملة فى القطاع المصرفى نحو 4365 فرعاً منتشرة على مستوى الجمهورية، وأكثر من 12 ألف ماكينة صراف آلى، وبنية تكنولوجية عكفت البنوك على تطويرها طيلة السنوات الثلاث الماضية فى إطار مبادرات الشمول المالى التى يتبناها البنك المركزى، ما يسهم فى وصول الخدمات المصرفية والأموال اللازمة للمواطنين فى كافة أنحاء الجمهورية خلال الأزمة بالأساليب التقليدية والمبتكرة.
ظهرت الأزمة وكانت البنوك العاملة تمتلك فائضاً فى السيولة النقدية يُقدر بـ2.36 تريليون جنيه غير موظفة فى ائتمان العملاء، مكّنتها من الدخول فى مبادرات مختلفة لدعم صمود القطاعات الاقتصادية فى وجه التحديات، وتحملها مبادرات المسئولية المجتمعية لدعم الشرائح الأكثر تضرراً، فضلاً عن قيام البنوك الوطنية مثل البنك الأهلى وبنك مصر بطرح شهادات مرتفعة العائد مقارنة بأسعار الفائدة المتداولة بهدف حماية مدخرات الأفراد فى ظل الأزمة.
وبالتزامن مع هذه المبادرات التى تحملها القطاع المصرفى، استطاع أيضاً أن يلبى احتياجات الأفراد من السحب اليومى، مثلما حدث مع بداية الأزمة وقيام الأفراد بسحب 30 مليار جنيه خلال ثلاثة أسابيع فقط، وفقاً لتصريحات طارق عامر، محافظ البنك المركزى.
ومع مرور أكثر من 50 يوماً على ظهور أول حالة مصابة بفيروس كورونا فى مصر وبداية الأزمة، ما زال الاقتصاد المصرى قادراً على الصمود، ولم نشهد أى نقص واختفاء فى السلع بالأسواق، أو نلاحظ ارتفاعاً كبيراً فى أسعار السلع، بل على العكس تمتلك مصر فائضاً فى السلع الاستراتيجية يكفيها لـ9 أشهر أخرى، وفقاً لبيانات وزارة التموين، فضلاً عن استمرار وجود الاحتياطى النقدى فى الحدود الآمنة، والذى يُقدر بـ40 مليار دولار، يمكّن الدولة من تغطية الواردات من السلع الأساسية لأكثر من 7 أشهر.
استمرت الأزمة لهذه الفترة، ولم تتأثر المراكز المالية للبنوك العاملة فى القطاع المصرفى بأضرار جسيمة، ومع هذه الضغوط لم يواجه المواطن أى صعوبات فى توفير السيولة المالية عند وضعه الكارت فى الـATM وسحب ما يشاء وفق حدود السحب المحددة، أو طلبه لقروض مهما كان حجمها ولم توفرها له البنوك.
استمرت الأزمة، وما زالت مصر تمتلك تصنيفات ائتمانية دولية قوية، حيث أبقت وكالة «ستاندرد آند بورز» على التصنيف الائتمانى لمصر عند مستوى (B) مع نظرة مستقبلية مستقرة، كما ثبتت وكالة «موديز» تصنيفها الائتمانى لمصر عند (B2) مع نظرة مستقبلية مستقرة، وذلك بدعم من الإصلاحات الاقتصادية التى قامت بها الدولة خلال الآونة الأخيرة.
وتنعكس هذه المؤشرات القوية التى صمدت فى وجه الأزمة طيلة هذه الفترة، على قدرة مصر فى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة فيما بعد، فضلاً عن ثقة المستثمرين الأجانب فى أذون الخزانة الحكومية، كما يعطى للدولة إمكانية الحصول على ائتمان دولى عند الحاجة، كما يحفز سرعة تعافى الأنشطة الاقتصادية، وعودة معدلات النمو لمستوياتها المستهدفة بأسرع وقت بعد انتهاء الأزمة.
البنوك تقف فى مركز قوة
أثبتت الأزمة الحالية أن البنوك المصرية تقف فى مركز قوة مكّنها من الصمود أمام هذه الأزمة، ليس الصمود فحسب بل تقديم الدعم والمساندة للأفراد ولكافة القطاعات الاقتصادية الأخرى ومساعدة الاقتصاد على امتصاص الصدمات للحد من تفاقم الخسائر فى العديد من القطاعات.
مؤشرات السلامة المالية التى تتمتع بها البنوك، هى ما تؤكد أن القطاع المصرفى المصرى يقف على أرض صلبة فى مواجهة التحديات، حيث يتمتع القطاع بإجمالى أصول تصل إلى 5.856 تريليون جنيه بنهاية ديسمبر 2019، تمثل الأصول السائلة نسبة كبيرة منها تقدر بنحو 75.8%، ما يشير إلى أن البنوك المصرية ستظل قادرة على تدبير تمويل مستقر حتى فى أصعب الأزمات، وهو ما يدعو إلى اطمئنان الأفراد والمؤسسات على ودائعهم.
هذا بالإضافة إلى أن إجمالى الودائع بالبنوك المصرية يبلغ 4.23 تريليون جنيه، تمثل 72.6% من أصول القطاع المصرفى المصرى، ما يشير إلى أن معدل تغطية أصول البنوك لإجمالى الودائع يسجل نحو 137.7% وهو ما يؤكد قدرة البنوك على سداد ودائع العملاء فى أى وقت، واعتبارها مخزناً آمناً للقيمة.
كما أن نسبة توظيف القروض للودائع بالبنوك المصرية تبلغ 44.1% فقط، حيث سجلت إجمالى أرصدة الإقراض التى منحتها البنوك للعملاء نحو 1.873 تريليون جنيه فقط من إجمالى الودائع، وهى من أقل نسب التوظيف فى المنطقة والعالم.
خريطة استثمارات البنوك
وتستثمر البنوك المصرية نحو 2.071 تريليون جنيه، بما تصل نسبته إلى 49% من ودائع القطاع المصرفى فى الأوراق المالية وأذون الخزانة الحكومية، وهو ما يعكس تمتع القطاع المصرفى بفائض سيولة واتجاه البنوك إلى توظيفه فى الاستثمارات المالية، خاصة أدوات الدين الحكومية، التى تعتبر الأكثر أماناً وتحفظاً.
وحول جودة الأصول بالقطاع المصرفى المصرى، نجد أن نسبة القروض غير المنتظمة لا تشكل سوى 4.5% من إجمالى القروض، كما أن مخصصات القروض إلى القروض غير المنتظمة تصل إلى 97.4% وهو ما يعكس إحكام الرقابة على التزام البنوك بضوابط منح الائتمان الموضوعة من قبَل البنك المركزى، وكذا انتهاج البنوك لسياسة التحوط والحرص على انتقاء العملاء ذوى الملاءة المالية المناسبة، ما انعكس إيجاباً على نسبة تغطية المخصصات للقروض غير المنتظمة، نظراً لصلابة إدارة مخاطر الائتمان واتجاه القطاع المصرفى المصرى ككل لتدعيم المخصصات.
هذا، وأظهرت نتائج اختبارات الضغوط التى يُجريها البنك المركزى على البنوك والتى تقيس قدرتها على تحمل الخسائر المستقبلية، مقدرة القاعدة الرأسمالية للبنوك الكبرى على اجتياز كافة السيناريوهات، بما يثبت قدرتها على مواجهة أى خسائر غير متوقعة، بالإضافة إلى تجاوز نسب السيولة للحدود الرقابية المقررة، فضلاً عن مقدرة الأصول السائلة على مواجهة الصدمات التى قد تنتج عن ارتفاع الفجوات السالبة بين آجال استحقاق الأصول والالتزامات فى الأجل القصير.
آليات فعالة فى وجه الأزمة
المؤشرات السابقة، والقدرة المالية والتكنولوجية التى تتسلح بها البنوك المصرية مكّنتها من مواجهة هذه الأزمة من خلال عدة طرق تتمثل فى وضع أسعار فائدة احتياطية بعوائد مرتفعة، وذلك لحفظ العائد على مدخرات الأفراد، خاصة أن شريحة كبيرة من المودعين يعيشون على فوائد أموالهم فى البنوك، وهو ما قام به البنكان الحكوميان «الأهلى المصرى وبنك مصر»، حيث أصدرا شهادات بعائد 15%، فى حين أن العائد على الإيداع المعلن من البنك المركزى 9.25% فقط.
وعلى الرغم من أن الشهادات التى طرحها بنكا الأهلى ومصر غير اقتصادية أو مجزية بالنسبة للبنوك وتؤثر بشكل سلبى على أرباحها، فإن الدور والواجب الوطنى الذى تلعبه هذه المؤسسات فى دعم الدولة، هو ما دفعها إلى إصدار هذه الشهادات فى هذا الوقت الصعب.
ولم يقتصر الدور الوطنى الذى يلعبه القطاع المصرفى على إصدار الشهادات فحسب، بل أصدر القطاع العديد من المبادرات لدعم العمالة غير المنتظمة والقطاع الصحى، حيث أطلق اتحاد بنوك مصر، برئاسة محمد الإتربى، مبادرة للتبرع لصالح المتضررين من أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد، على أن يتم تقسيم وحدات القطاع المصرفى إلى 4 مجموعات بحسب الأرباح المحققة خلال العام الماضى، يتم على أساسها تقديم التبرع المقرر للمبادرة.
تبرعات للمتضررين
وجاء تقسيم البنوك للتبرع على النحو التالى؛ تتبرع البنوك التى بلغت أرباحها 5 مليارات جنيه فيما فوق بقيمة 80 مليون جنيه، بينما تتبرع البنوك التى حققت أرباحاً من 3 إلى 5 مليارات جنيه بـ40 مليون جنيه، فى حين أن تبرعات البنوك التى تراوحت أرباحها من 1 إلى 3 مليارات جنيه تبلغ 20 مليون جنيه، وتقدم البنوك التى حققت أرباحاً أقل من مليار جنيه تبرعات بـ10 ملايين جنيه، حيث تقرر توزيع مبلغ الدعم على 3 شهور متتالية هى أبريل ومايو ويونيو، كون مدة الأزمة غير معلومة.
كما قامت بعض البنوك بتقديم دعم للمؤسسات والأفراد بشكل فردى، بخلاف تبرعات اتحاد بنوك مصر، وذلك للحد من تداعيات فيروس كورونا، حيث أعلن بنك القاهرة، برئاسة طارق فايد، عن توفير 4 أجهزة تنفس صناعى لغرف العزل والرعاية المركزة بالمستشفيات الأكثر احتياجاً بالتعاون مع بنك الشفاء المصرى، فضلاً عن قيام البنك بتجهيز مبنى للحجر الصحى للمصابين بالفيروس، وتزويده بكل الاحتياجات اللازمة لتقديم الدعم الطبى اللازم للمصابين، بالتعاون مع مؤسسة أهل مصر للتنمية، وذلك بطاقة استيعابية 200 سرير.
كما دأب البنك العربى الأفريقى الدولى، برئاسة شريف علوى، على المشاركة فى العديد من المبادرات لمواجهة تداعيات تفشى الفيروس، حيث تجاوزت مساهمات البنك 51 مليون جنيه، وذلك للتخفيف من الآثار السلبية للفيروس على الفئات الأكثر احتياجاً مثل أسر العمالة غير المنتظمة، وتوفير احتياجات القطاع الطبى من مستلزمات وقائية للأطقم الطبية، وشراء غرف العناية المركزة اللازمة لمواجهة الفيروس، وتجهيز مبنى متكامل للحجر الصحى.
كما أعلن المصرف المتحد، برئاسة أشرف القاضى، مشاركته فى عدد من المبادرات القومية لدعم ومساندة الفئات الأكثر تضرراً من جراء الأزمة العالمية، حيث قام المصرف المتحد بالاشتراك فى مبادرة صندوق تحيا مصر لدعم عمال اليومية وتوفير القدر الأساسى من احتياجاتهم اليومية لدعمهم فى تخطى الأزمة، بالإضافة إلى مشاركته مع مؤسسة صناع الخير فى مبادرة «حماية» لدعم غير القادرين ومساندتهم لتخطى أزمة كورونا.
وقام البنك التجارى الدولى، برئاسة هشام عز العرب، بتقديم مبلغ 1.6 مليون جنيه فى صورة معونات عاجلة لعشرة آلاف أسرة فقدت مصدرها الأساسى للدخل، استجابة لمبادرة «تحدى الخير»، بالإضافة إلى تقديم تبرعات بقيمة 80 مليون جنيه ضمن مبادرة اتحاد بنوك مصر.
جميع المبادرات والمساعدات التى قدمتها البنوك، التى ذكرنا بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر، تؤكد أن البنوك لم تنتظر مناشدة من الدولة أو الأفراد مثل ما حدث مع بعض رجال الأعمال، الذين توجهت لهم العديد من الانتقادات على «السوشيال ميديا» بسبب تقاعسهم عن مساندة الدولة أو حتى العاملين فى مؤسساتهم، وهو ما يثبت أن وجود مؤسسات مملوكة للدولة ورأس مال وطنى هو «أمر فعال» لمواجهة الأزمات التى قد تضرب الدول.
مؤشرات السلامة المالية والقدرة التكنولوجية تُمكنان البنوك من «تطويع الأزمة» وتقليص التعامل المباشر بين العملاء والموظفين