«لا! الناس مش عارفة يعنى إيه الواحد يبقى هنا فى الخليج. كل اللى يعرفوه إن الخليج فيه فلوس. لما تيجى هنا الناس بتبقى مستنياك تقعد شوية وبعدين ترجع عامل فلوس.. لكن الحقيقة مختلفة.. وانت هنا بتفوتك فرص أحسن كان ممكن تجيلك فى مصر.. لكن ما ينفعش ترجع على طول. لو رجعت بدرى الناس حتقول عليك مش راجل، ووش فقر!»
من كتاب «حتى ينتهى النفط: الهجرة والأحلام فى ضواحى الخليج» - صامولى شيلكه
مع جائحة كورونا، ومع انغلاق الحدود بين الدول، وتعطل حركة الطيران وبالتالى تقطع أوصال كوكبنا العجوز المنهك بالصراعات والأوبئة، طفت على السطح حكايات ليس بطلها الفيروس القاتل الغامض، بل التحيزات العنصرية والنعرات الشوفينية وحكايات من قبيل «حياة السود مهمة» فى الغرب، و«الكويت للكويتيين» فى الشرق، وما إلى ذلك مما ظننتُ شخصياً فى لحظة شاعرية (أظنها من مخلفات مراهقتى!) أنه سيتوارى لصالح وحدة الإنسانية فى مواجهة الوباء، وتصفيق الشعوب على اختلافها للجيش الأبيض فى الغدو والرواح!
ما علينا! يأبى بنو آدم إلا أن يقلبوا المواجع، ومن بينها تلك المتعلقة بالعمالة المصرية فى الخليج. وعلى خلفية تقليب المواجع هذا، كان ممتعاً لى أن أطالع سريعاً كتاب الباحث والمستشرق الألمانى صامولى شيلكه «حتى ينتهى النفط» الذى استلهم اسمه من حديث أحد المصريين العاملين فى قطر عن مخططه الزمنى (اللامحدود) للبقاء فى تجربة هجرته للخليج، وهو الكتاب الذى يدور -كما يعكس عنوانه- حول التجربة الخليجية (وتحديداً تجربة العمالة المصرية رقيقة الحال فى قطر)، وإذا ما كان يمكن تسمية تلك السنوات التى يقضيها العاملون المصريون -وسواهم- دون أمل فى التجنّس، وفى أن يعاملوا مثل أبناء الأرض، إذا ما كان يمكن تسمية تلك التجربة حقاً بالهجرة.. وإذا كانت التجربة الخليجية صورة من صور الهجرة المؤقتة الممهولة، أو المربوطة بكفالة أو بـ«نهاية النفط» أو سواها من العوامل، فما أثرها على تلك الذات التى تعود إلى أرضها الأم بعد سنوات؟ بأى أحلام رحلت، وبأى وجدان عادت تلك الذات المهاجرة؟ بأى تساؤلات، وبأى اغترابات، وبأى حكايات؟
هل يندم المصريون أبناء التجربة الخليجية بعد أن يعودوا؟ أم تراهم يندمون أنهم لم يعودوا مبكراً؟ أم تراهم يندمون أنهم لم يهاجروا غرباً بدلاً من أن يفعلوها بالعكس: شرقاً؟!
كيف تحايلوا هنالك على ضعفهم؟ على احتياجهم للكفيل؟ لكل فلس وريال؟ كيف استفادوا من ثغرات النظام؟ كيف شعروا حيال المولات البذخة فى الخليج؟ وكيف انتصر لهم الخيال فى لحظات الاغتراب، أو الشعور بالمهانة؟ وماذا عن نسائهم فى مصر؟ فى أرياف مصر ومدنها، منذ سبعينات القرن العشرين وحتى اليوم؟ كم شريط كاسيت سجلت تلك النسوة؟ وماذا قاسين وحدهن؟ وبم عاتبن أزواجهن فى الإجازات السنوية الخاطفة؟
بعض هذه الأسئلة يعرّج عليها كتاب صامولى، وبعضها لا يفعل، ليتركك بعد أن تفرغ من القراءة محملاً بالأسئلة، وأنصاف الحكايات، والرغبة فى أن يكمل لك أحدهم ما بدأه صامولى فى بحثه المختصر، الذى نأى بنفسه بدرجة ما عن الحديث «الملتوت» عن الحضارة القديمة الأصيلة فى مقابل النبت الشيطانى المتمثل فى ناطحات السحاب التى حلت محل خيام رعاة الغنم بين عشية وضحاها بفضل الذهب الأسود، مركزاً بدرجة أكبر على قدرة البقاء لدى المصرى فى ظروف عمل ومعيشة قاسية، مستعيناً بقوة الخيال، وقصص الحب المنتظرة على ضفاف النيل، وقصائد أمل دنقل تفوح منها روائح اليسار الشاعرى. لا يزال هناك الكثير مما يحتاج حقاً لأن يروى على ألسنة المصريين المصلوبين بين الخليج وقرى مصر، ممن لم يهتم كثيرنا بالإنصات لهم، أو من لم يهتموا هم بحكى تجاربهم لنا، وهو ما أظن أنى ألملمه عشوائياً وبشغف كبير عبر منشورات الفيس بوك، لكن دون أن أروى رغبتى فى الإلمام بالحكاية.. على الأقل ليس بعد!