ليس كل الرحيل غياباً.. ربما توارى أجساد، لكن يستمر حضور معان وقيم بأقوى من الوجود المادى. ينطبق هذا المعنى على نماذج لم يكن مشوار حياتها عابراً ولا ذاتياً بقدر ما أثروا ليس فقط الفضاء المحيط بهم، لكنهم حفروا علامات بمدى أوسع قد يتسع ليشمل فكرة الحياة ذاتها.. بهذا الشعور استقبلت خبر رحيل أحد أنزه الأسماء فى مهنة الصحافة وهو الأستاذ حسنين كروم، الذى ربما لم تعرفه الأجيال الأخيرة فى الصحافة، لكنه واحد من شرفاء هذه المهنة على مدى عشرات السنين لم يكتب إلا عن قناعة ولم يتراجع عن قناعاته مهما كانت وطأة الضغوط... كان ناصرياً منحازاً للناس، واستطاع فى ذروة الهجوم على عبدالناصر من أغلب الصحافة ومن مفكرين فى قامة توفيق الحكيم، أن يتصدى وأن يرد ولو كان وحيداً فكتب «عبدالناصر المفترى عليه»، وهو الكتاب الذى تهربت من توزيعه شركات التوزيع وحوصر انتشاره، فكان هو وأصدقاؤه يحملون نسخه إلى محطات القطارات والشوارع لفك الحصار. اقتربت منه مهنياً وأيضاً أسرياً قبل ما يقرب من أربعين عاماً.. وعيته كاتباً وإنساناً وفى الحالتين كان الاتساق، والاتزان والالتزام.. المدهش أن صلابته المهنية ورسوخ مواقفه المنحازة بلا مواربة إلى عبدالناصر وإلى الناس، كانت تخرج بانسياب ودون صراخ.. مقاتل فى الدفاع عن رأيه ولكن بمنتهى الهدوء وربما البشاشة... حسنين كروم «خلطة» من الرجل صاحب الموقف، وابن البلد، والإنسان صاحب القلب العامر بالإنسانية والذى يسع العالم.. خادم الناس وسيدهم.. لماحية مفرطة، وجه واحد أو العملة الواحدة التى تعامل بها مع الجميع، من اختلفوا معه قبل المتفقين معه.. النزاهة والأمانة دون التفاف.. كانت الصحبة والشمل الملتئم مع أستاذنا الكبير محمد عودة والكاتب الجميل يوسف الشريف والأستاذ الكبير عبدالعظيم مناف وجمال الغيطانى، ولا يخلو الأمر من حضور لأستاذنا محمود السعدنى أحياناً وآخرين بأسرهم، تلتقى على الأقل مرة كل شهر، إن لم يكن أكثر فى بيت الأستاذ حسنين، الذى كنت أسميه وما زلت «بيت الأمة»، صحيح أنه كان أشبه بصالون ثقافى سياسى ارتجالى، لكنه كان ذروة فى التلاقى الإنسانى غير المشروط، والذى قاسمه المشترك حب جارف لهذا البلد وأدراك عميق لقيمته، وحس عروبى حقيقى.. تمتع الأستاذ حسنين ببشاشة وحس ساخر هادئ، كان يتجلى فى النقاش والكتابة بصورة ينفرد بها، وأستحضر هنا معالجته المتميزة للصحف المصرية على صفحات جريدة القدس، التى لا أعتقد أن لها نظيراً، لا فى الإحاطة واتساعها لكل وجهات النظر ولا فى تلك القدرة الفذة فى التعامل ككاتب «مبدع» فى شكل تعامله، والتى يمكن أن تفجر شلالات من «الضحك الجاد»، وهى مفارقة وموهبة حقيقية، جعلت من أسلوب حسنين كروم علامة مميزة... القيم التى عاش بها ووفقها الأخ والزميل حسنين كروم هى التى تجعله حاضراً رغم الغياب، وهى التى تحس أننا فى حاجة لأن نستبقيها، هو حلقة فى جيل نادر فى الصحافة... جيل لم يتكسب من الكلمة، لا قايض عليها ولا ساوم بها ولا اتخذها طريقاً لمآرب غير الانتصار لما رآه «حقاً» واتخذه قناعة.. رحيل حسنين كروم، القلب الشجاع، لا يعنى غياب منظومة الكلمة المحترمة، والموقف الشريف، القابض على جمر المهنة، لكنه يكثف الحاجة لإبقاء كل ذلك حياً لاستعدال الأحوال.