ليس معقولاً أن تستطيل العشوائيات وتتسع وتتزايد ثم توجه المخصصات المتاحة لتقديم خدمات إضافية لقرى الكبار ومدن لا تحتاج إلى مزيد من الخدمات.. لم يكن مقبولاً أن تصرخ قرى بكاملها بطول البلاد وعرضها من «ميت نما» بالدقهلية إلى «المطيعة» بأسيوط إلى «جلوصنا» بالمنيا من حوادث الطرق وتوجه المخصصات إلى تجديد الطرق فى أماكن «راقية» إرضاء لمن فيها أو لقدرة سكانها على التأثير فى القرار السياسى أو لقربهم من رئيس لجنة «الخطة والموازنة» بالبرلمان!
لم يكن صحيحاً أن يتوقف برنامج الدولة لتنظيم النسل أو يستمر بفشله الذريع فى التعامل مع الأزمة الكارثية وأثر ذلك على استمرار معدل الزيادة فى السكان، وفى الوقت نفسه لا تستطيع الدولة وقتها أن توفر الإمكانيات اللازمة لبناء مدارس كافية ولا زيادة الفصول المدرسية لاستيعاب أبناء شعبنا فى مختلف مراحل التعليم، إضافة إلى غياب أى خطة لضبط أعداد الخريجين من الجامعات المصرية، ومنهم من ذهب إلى كليات قمة مثل الطب بلا مستشفى جامعى للتدريب قبل حصوله على رخصة التعامل مع المرضى من المصريين، فضلاً عن استمرار عمليات البيع لشركات الشعب التى غيروا مسماها، الاسم القديم الكخة الوحش أوى، من القطاع العام إلى قطاع الأعمال العام، ونتيجة ذلك من افتقاد أدوات قيادة التنمية وتوجيهها نحو تحقيق أهداف استراتيجية وتشريد مئات الألوف من العمال، انضموا إلى الخريجين إلى سوق البطالة فى أجواء سوداوية محبطة!
لم يكن ممكناً استمرار التوسع فى الرقعة الزراعية بحركتها التى كانت عليها التى لا تستوعب الزيادة الكبيرة فى السكان، وبما يزيد فروق الاستهلاك والإنتاج، وبالتالى لم يكن ممكناً استمرار الأدوات ذاتها التى تسببت فى هذه الحركة المحدودة.. ولم يكن ممكناً توجيه مخصصات الصحة إلى المدن الكبرى وحدها دون أن تحصل محافظات ومدن أخرى عديدة على حقها فى خدمات أساسية، وأن تشعر بأنها على خريطة الوطن.. بل لم يكن أصلاً ممكناً الاكتفاء بقوانين تقديم الخدمات الصحية الموجودة، وإنما إقرار بإرادة سياسية جبارة قانون التأمين الصحى الجديد، الذى يؤمن تقديم أهم الخدمات على الإطلاق للناس، بل ولم يكن أصلاً ممكناً الاكتفاء بمخصصات وزارة الصحة التى يحددها الدستور، والأهم التى تحددها الإمكانيات المتاحة للموازنة العامة!
ولم يكن منطقياً استمرار حال مرفق السكك الحديدية كما هو عليه.. جرارات قديمة وعربات متهالكة وإضعاف إحدى أهم أدوات الدولة فى هذا الملف، وهى شركة سيماف لتصنيع عربات القطارات، مع الاعتماد على إدارة المرفق على وسائل تجاوزها الزمن، خصوصاً فى المزلقانات والتراسل والإشارات وطريقة حجز التذاكر.. أما الحالة التى بلغتها العربات من الداخل بجميع درجات السفر من الأولى الممتازة إلى الثالثة العادية وعلى كل أنواع القطارات من الإسبانى إلى الفرنساوى إلى التوربينى إلى رجال الأعمال، فوصلت إلى حدود بشعة كان من المستحيل الصمت عليها!
ولم يكن ممكناً الإبقاء على طريقة توفير الطاقة فى مصر كما هى.. فى دولة تتطلع لحجم تنمية كبير وطموح جداً.. مع زيادة السكان والتوسع العمرانى لا يصح أن يبقى السد العالى وحده مصدر الطاقة، خصوصاً أنه ليس مشروعاً للطاقة وحدها إنما لتنظيم الرى والحماية من الفيضان وتخزين المياه.. وهو فى توفيره للطاقة بلغ أقصى تكنولوجيا متاحة لمحطة مائية.. كما لا يمكن القبول بالاعتماد على الأشقاء فى توفير الطاقة بشكل دائم حتى إذا ما اضطربت الأمور فى بلاد الأشقاء اضطربت هنا.. وبالتالى لا يمكن الصمت على مصادر طاقة ممكنة على أرضنا وفى حدودنا ولا الاعتماد على «الرخيص» من محطات الطاقة والكهرباء!
ولم يكن مقبولاً أيضاً أن يبقى الفلاح المصرى تحت رحمة السوق المحلية أو العالمية فى توفير السماد له.. ولم يكن ممكناً إهمال طاقة صناعية كبيرة يمكن توظيفها وتجديدها واستخدامها لتضاف كقوة هائلة فى دعم الاقتصاد وتوفير السلع وفرص العمل، وعندنا المصانع جاهزة تحتاج إلى شرارة الاهتمام فى إدفينا وقها وحلوان للصناعات المعدنية وحلوان للصناعات الهندسية وسيماف والحديد والصلب والنصر للسيارات ونيازا للمصابيح والنصر للكيماويات وترسانة الإسكندرية وطنطا للزيوت وستيا للمنسوجات بل وقطاع النسيج كله ومعه القطاعات الأخرى الأربعة الرئيسية، وهى فضلاً عن النسيج والصناعات الغذائية والصناعات الكيماوية والدواء منها والصناعات الهندسية والمعدنية والسيارات منها!
ولم يكن ممكناً بأى حال من الأحوال الإبقاء على حالة الفوضى الشاملة فى مسارات عديدة.. أراضى الدولة مستباحة بفعل الفساد والإهمال.. مرة بالفساد الذى يخصص بغير حق أو يغض البصر عن واضعى اليد واللصوص.. وقوانين بناء مستباحة تحولت من «قوانين للتنظيم» إلى قوانين للعبث والفوضى.. وأصبحت المخالفات هى الأصل والالتزام هو الاستثناء.. فسُحق القانون تحت سطوة ونفوذ الكثيرين وسحقت معه الحياة الآمنة الطبيعية للناس.. ارتفاعات تخرج لسانها للجميع وتشوهات تدعو للحزن والقرف معاً، وضغط رهيب على المرافق الأساسية وأموال تتدفق إلى المخالفين ومن ساعدوهم، وشوارع تعج بالزحام والضوضاء وتلوث فى كل مكان ورشاوى فى أغلب المكاتب وعلاقات فاسدة فى دوائر زكمت روائحها الأنوف، وضرب الفساد أغلب المرافق حتى أصبح فى أغلبها أيضاً الأصل والالتزام هو الاستثناء.. فلا ورقة ولا قرار ولا سجلات ولا تراخيص ولا تصاريح ولا مشروعات ولا حتى الحصول على الحقوق الطبيعية إلا بالتعامل خارج إطار القانون!
ولم يكن ممكناً والقرار هنا سياسى فى المقام الأول الإبقاء على شكل تسليح الجيش العظيم.. كان لا بد من ضخ أنواع جديدة فى شرايينه تجدد نشاطه وتمنحه القدرة على الحركة السريعة.. المؤثرة والحاسمة.. عند الضرورة.. والضرورات ثبت أنها كثيرة!
كثيرة هى الأمثلة التى يمكن تناولها، والتى كان من المستحيل أن تبقى كما هى.. وإلا سنكون أمام دولة امتداد لما سبقها.. شعب على قيد الحياة وحكومة تدير أموره ومصالحه عند هذا الحد.. لا أسقف للأمل ولا تطلعات ولا مستقبل قابل للتحقيق.. شعب أفهموه أن الاستقرار أن يبقى كل شىء على ما هو عليه.. لا الطبقات الفقيرة والكادحة قادرة على الحلم.. ولا الفئات المتنفذة تتوقع الحساب والمساءلة.. وأحلام الطبقات الكادحة والبسيطة ليس فقط فى المسكن والمأكل وإنما أيضاً فى حق أبنائها المشروع فى الصعود الاجتماعى الطبيعى فى التعليم والوظائف، خصوصاً الممنوع عليها والمحرم بقوانين غير مكتوبة.. يتبقى إجراءات جذرية فى دور الثقافة والإعلام لأداء تحول نوعى وكمى فى وعى المواطن المصرى.. وهو ما يتطلب أولاً تعريف الوعى الوطنى.. وماذا نريد منه وله.. إذ يبدو أن تعريفات عديدة للمصطلح يعتمد عليها كل من يشارك فيما أسميناه «معركة الوعى».. فمنهم من لم يزل خاضعاً لتخاريف قديمة من عينة «الفتح العثمانى» وأننا كنا نتبع «دولة الخلافة» رغم العشرة آلاف مصرى ممن ذُبحوا فى ليلة واحدة على يد الغازى العثمانى.. وهناك من يزعم دعمه للوطنية المصرية ولكنه يطعن فى أول قائد عسكرى مصرى فى العصر الحديث طالب بأن يكون جيش مصر للمصريين ومنهم، ويتهجمون على أحمد عرابى بالباطل وبما لا يليق... ومنهم من يطعن فى النظام الجمهورى المصرى نفسه، الذى أسسه أبناء الجيش العظيم بعد ٢٣ يوليو ويسعون لتبييض فترات الاحتلال..!!!!
تلك هى الدولة التى يهدمها السيسى.. والتى يجب أن يهدمها السيسى ليبنى الدولة الجديدة التى يحلم بها ونحلم بها وسنبنيها معه!