لعنة كورونا.. "متاعيس الأفراح" يحاربون وقف الحال بـ"الزفة الكدابة"
المصري "بيلف" في الشوارع.. وبيتر ينفق "فلوس الجواز" على المحل المغلق
توقف حفلات الزفاف - أرشيفية
قبل أن يتمدد "كورونا" طولاً وعرضاً ويصيب أبناء الأرض شرقاً وغرباً، ويخترق حدود البلدان دون رادع، ظنّ "عمرو" حين سمِع عنه في يناير الماضي أنه لن يخرج عن حد "ووهان" منبع الفيروس، أو على أقصى تقدير، الصين.
لكن توقعات "عمرو" خابت وطال الوباء رؤوس الكثيرين كسنابل قمح انقض عليها، كالطائر الجارح على الفرائس. ولم يكتفِ الوباء بعزل البشر خلف أسوار الخوف والقلق، إنما عصفت رياحه السامة بأرزاق الكثيرين منذ بداية العام وحتى شهره السابع.
وحين وصل الفيروس إلى المحروسة، ظل عمرو المصري وهو واحد من فرقة استعراضات موسيقية اعتادت إحياء حفلات الزفاف بقاعات الأفراح ضمن فقرة "الزفة"، متمسكاً بأمل ألا يؤثر على صحة أحبائه أولاً وعمله ثانياً، بيد إن الرياح أتت بما لا يشتهي، وعانى انتكاسة شديدة منذ بدء الجائحة.
صاحب انتشار الوباء الأسرع من البرق، إجراءات وقائية أوصت بها منظمة الصحة العالمية، ونفذتها حكومات الدول وبينها مصر؛ ففي 26 مارس الماضي قرّر مجلس الوزراء تقييد حركة المواطنين أسبوعين للمرة الأولى، ثم جدّدها ست مرات أخرى، مع قرارات احترازية أخرى، ومنها إغلاق قاعات الأفراح ومنع حفلات الزفاف.
ورغم بدء مرحلة التعايش مع كورونا، نهاية الشهر الماضي وعودة الفتح التدريجي لمختلف الأنشطة، كالمقاهي والنوادي والمساجد والكنائس وغيرها، إلا أن الحكومة قرّرت استمرار غلق قاعات الأفراح؛ لخطورة التجمعات والتكدسات.
سدّ "كورونا" باب رزق "المصري" منذ ذلك الحين ورسم أمامه طريقاً مجهولاً مليئاً بالعتمة، ما بين الخوف والقلق من الإصابة، ومحاولات البحث عن مصدر آخر للرزق، حتى لا يتضور وأسرته المكونة من زوجه وثلاثة أبناء من الجوع، وكي لا يصل إلى مرحلة العوز.
زفة كدابة
أجبرت إجراءات كورونا "المصري" (46 عاماً) على التجول بالشوارع مصطحباً آلته الموسيقية "الترومبيت"، ومعه اثنين من الفرقة أحدهما يحمل آلة الطبل الكبير (Bass Drum)، والثاني "الرق" (Tambourine).، من أجل كسب الرزق.
في شارع كبير بحي فيصل التابع لمحافظة الجيزة، يبدأ "المصري" بالعزف على آلته ذات الصوت الحاد الذي يكاد يُقيظ النائم، ثم يضرب زميله رأس الطبل الكبير بعصا طبل فيصدر صوت ستاكاتو حاداً في خليفة آلة "المصري". أما ثالثهما فيبدأ بتحريك "الرق" وينظر إلى أعلى ملوحاً بيده إلى شرفات المنازل التي امتلأت بالناظرين من السكان بعدما أدهشتهم الأصوات غير المعتادين عليها في الشوارع، وبعد أن يستمعوا إلى مقطوعة موسيقية يبدأون بإلقاء الأموال إليهم تحية لهم.
"زفة كدابة"، هكذا يرى "المصري" محاولات الحصول على أموال: "أهو بنحاول نسترزق بالحلال بدل ما نِشحت"، يقول مسترجعاً أوقات عمله في قاعات الأفراح وبعض الحفلات الفنية التي كانت توفر له من 150 لـ250 جنيها في الحفل الواحد، أما اللف على الشوارع لم يعد يوفر نصف المبلغ بعد ترجُّل يصل لسبع ساعات.
استغنت أسرة "المصري" عن الكثير من احتياجاتها حتى يستطيعون العبور بأمان من تلك المرحلة: "بنتي مش عارف أجيب لها لبس جديد بدل الل اتبهدل عندها.. ومراتي حامل قولت لها مش هجيب لك لبس الحمل واستحملي الكام شهر دول.
يأمل "المصري" في عودة القطاع كما مختلف الأنشطة، مع ضرورة اتباع الإجراءات الاحترازية، غير إن الحكومة ترى في الفتح خطورة بالغة في انتشار الفيروس، كما حدث في قرية المعتمدية التابعة لمركز كرداسة بالجيزة، التي فُرض عليها حجراً صحياً، أبريل الماضي، بعد تفشي الوباء، إثر إقامة حفل زفاف وعزاء حضرهما مصابون بكورونا، ضاربين حينها بعرض الحائط قرارات الحكومة.
في فترة الحظر كِبرت 10 سنوات
لم يكن "المصري" وفرقته وحدهم الذين يتألمون؛ القطاع يعج بأكثر من خمسة ملايين شخص على مستوى الجمهورية، طابور طويل من العاملين تضرر من الوضع، كفنيي الإضاءة وعاملي الفراشة ومصممي فساتين الأفراح وبائعيها ومنظمي الحفلات وأفراد الفرق الفنية، وغيرهم، وفق ما قال محمد فوزي رئيس شعبة الفراشة بالغرفة التجارية بالقاهرة لـ"الوطن".
سلامة سعيد واحد من عُمّال الفراشة وفنيي إضاءة أفراح الشوارع وسُرادِقات العزاء، يخشى من أن يضيع عُمره أسيراً لسيطرة "كورونا" خصوصاً أنه كان على بُعد خطوات من الزواج: "حاسس إني كبرت 10 سنين في الكام شهر دول.. ومش عارف المستقبل شكله إزاي".
حياة "سلامة" (28 عاماً) توقفت تماماً وتجمّدت تحضيرات الزواج التي بدأها قبل عام، ولم يكن بالأمر السهل هذا التحوّل خصوصاً أنه طرق أكثر من باب عمل، لكنّ لا مكان في ظل الإغلاق والتوقف شبه التام.
وفي قرية المنوات جنوب الجيزة، تكثُر الأفراح التي تُقام في الشوارع (إما لزفاف أو لرد نقوط)، وفي ساحة فضاء خالية يقف "سعيد" متذكراً: "في مثل هذه الأيام تكتظ الأراضي الواسعة بالأفراح، فلا تخلو من تعليق الأنوار ودق العواميد الخشبية وغيرها.. لكن الآن لا صوت يعلو فوق صوت الصمت، تماما كليالي الشتاء القارس".
يروي "سلامة" تمسكه بالأمل في بدايات الأزمة: "كنت أظن أن الأفراح ستعود بعد أسبوعين أو شهر، لكنني صُدمت باستمرار الإغلاق، ما جعلني اضطر للبحث عن مصدر رزق آخر ولو قليل".
كان "سلامة" يتحصل على يومية 150 لـ200 جنيه، وبعد مرور أكثر من شهر من بداية الأزمة دون دخل، اتجه للعمل في محل لإصلاح وتركيب الدش والريسيفيرات، وأصبح متوسط دخله في اليوم نحو 30 جنيها: "شغال في محل بس مليش مرتب شهري.. باخد فلوس لما بيجيلي زبون عايز يركب دش أو يظبط الريسيفر.. صاحب المحل بياخد 60% من الفلوس.. وبالكاد ممكن توصل يوميتي 50 جنيه، وفي أيام أخرى قد لا أحصل على أي أموال حين أنتظر الزبائن دون جدوى".
كثيرون حالوا تغيير المجال
واتجه كثيرون من العاملين في القطاع إلى مهن أخرى، إلا أن بعضهم لم يستطع الصمود، حسبما يحكي محمد فوزي رئيس شعبة الفراشة بالغرف التجارية: "صاحب فِراشة اشترى خضروات وفواكه لبيعها لكن اليوم التالي اكتشف أن بضاعته جميعها فسدت كونه ليست "كاره" فخسر أمواله.. بينما آخرون باعوا ذهبهم أو قطعة أرض أو بعض أملاكهم حتى يستطيعون العيش.. فحياتنا جميعاً في ضنك".
وتوقعت منظمة الأونيسكو في تقرير نشرته عبر موقعها، أن تخسر المنطقة العربية أكثر من 1.7 مليون وظيفة في عام 2020، مع ارتفاع معدل البطالة بمقدار 1.2 نقطة مئوية. وأن يتراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بما لا يقلّ عن 42 مليار دولار، نتيجةً للآثار المضاعفة لانخفاض أسعار النفط والتباطؤ الاقتصادي الكبير الناجم من إغلاق مؤسسات القطاع العام والخاص.
أنفق "فلوس الجواز" على إيجار المحل المغلق
في حي مصر الجديدة بالقاهرة، يستأجر بيتر سمير (30 عاماً) محلاً بمول تجاري مُخصص لتأجير وبيع فساتين حفلات الزفاف، وتنشط الحركة خلال الصيف (موسم الزواج)، لكن هذا العام بمثابة كابوس، تمثل في الإيجار وفواتير الكهرباء ورواتب العاملات بالمحل، فضلاً عن مصاريفه الشخصية: "الموضوع طوّل أوي وبقالنا كتير قافلين.. كان عندي بنتين شغالين مقدرتش أديهم مرتب غير أول شهر.. دا غير إيجار المجل والكهرباء".
ويدفع بيتر 5000 جنيه شهرياً مقابل إيجار المحل، بخلاف فواتير الكهرباء والمياه، غير إنه لم يستطع الاستمرار في دفع رواتب الموظفتين اللاتين كانتا تعملان بالمحل، سوى شهر واحد فقط من بداية الإغلاق وفرض حظر التجوال، إذ يبلغ راتب كل منهما 3500 جنيه شهرياً.
وعلى الرغم من أن "بيتر" يخشى من تكدس البضاعة التي اشتراها قبل أزمة كورونا، لأن الأزياء والموضة تتغيّر من موسم إلى آخر، غير إن أكثر ما يؤرقه إيجار المحل، وهو ما اضطره إلى إنفاق مبلغ كان يدخره للزواج: "بصرف من بداية أزمة كورونا ولحد دلوقتي من فلوس الجمعية اللي قبضتها علشان اتجوز.. فركشت الموضوع وصرفت نظر عن الجواز.. كل الفلوس اللي حوشتها بصرفها إيجار للمحل علشان مخسروش".
عاد "بيتر" إلى مسقط رأسه بمحافظة المنيا؛ ليعيش مع أهله بعد أن أُغلق المجال، وتوفيرا لإيجار الشقة التي كان يقطن بها بالقاهرة.
البشرية عاجزة
ولنحو أكثر من سبعة أشهر تقف البشرية عاجزة أمام الفيروس العالمي الذي لا يوجد له حتى يومنا هذا، لقاحًا ولا دواءً محدداً مضاداً سواء للوقاية أو العلاج، وفق ما نقلت منظمة الصحة العالمية، غير إن الدول تتخذ ما بوسعها في مكافحته وأيضاً محاولات الوقاية منه، بداية من قرارات الإغلاق الكامل/الجزئي، وصولاً لمرحلة خطة التعايش.