أين نذهب حين نكون نائمين يا ماما؟
هنا فى الغرفة.
لكن فى الأحلام.. هل ندخل إلى التليفزيون كى نرى الأحلام؟ هل ندخل إلى التليفزيون؟
لا.. نحن لا نذهب إلى أى مكان خارج الغرفة.
من حوار بين أم وطفلها فى فيلم «غرفة» - إنتاج 2015
*************
(1)
فى رواية «العملاق الودود الضخم» ذات الأصول البريطانية، التى نقرأ سطورها أنا وصغيرتى قبل النوم، نجد العملاق الطيب يمتهن اصطياد الأحلام من أرض الأحلام بشبكة صيد كبيرة، ثم يحبس الأحلام فى جرار زجاجية شفافة، قبل أن يعود إلى أرض البشر، فيستخدم بوقه العملاق (الترامبيت) لنفخ تلك الأحلام فى عيون البشر المغمضة كى يروا ما اصطاد لهم من الأحلام، محتفظاً بالأحلام الهنيئة للصغار والطيبين، والأحلام الشريرة لأولئك المشاغبين والقتلة والمجرمين.
كم أحببت الفكرة وتمنيت لو كان الأمر كذلك! لكن الحقيقة أن الأمر أعقد من هذا، وفيه ما فيه من الغوامض والسراديب التى يلهث وراء استيعابها العلماء.
(2)
حين استمعت للمرة الأولى إلى مقطوعات الموسيقية اليونانية الحسناء إلين كارانديرو قبل خمسة عشر عاماً، وكانت الأسطوانة الأولى هدية من شخص سيغدو بعدها وإلى يومنا هذا أحد أقرب الأصدقاء إلى قلبى...ما زلت أذكر كيف قال لى وقت أهدانى الأسطوانة الأولى إن موسيقى هذه السيدة تنفذ بصورة ما إلى العقل الباطن، وتفتح بعض أبوابه المغلقة، ليجد المستمعُ نفسه فى لحظة ما عقب الاستغراق فى تلك الموسيقى فى مواجهة مع أشباحه الكثيرة من مخاوف وأحلام مجهضة وذكريات مؤلمة، وأشياء كثيرة من تلك التى نتعمّد تجنّبها غالباً، كى لا يرتبك إيقاع حياتنا اليومية.. ليلتها رأيت كابوساً أو اثنين لا أذكر منه سوى طرقات طويلة معتمة وكلاب مسعورة لا أكاد أراها، لكننى أسمع نباحها، فصدقت الأسطورة! ومنذ ذلك الوقت، وعبر خمسة عشر عاماً، ما زلتُ أنصت لموسيقى إلين بحذر، وأستغرق فيها بحذر، مصدّقة (وربما مدركة بعد الإنصات إليها عبر سنوات) أنها موسيقى خطرة، تستحق أن أسير عقب الاستغراق فيها على أطراف أصابعى داخل سراديب عقلى الباطن..فتلك مساحة ذات سطوة لا أحب أن أمازحها أو أمرح حولها!
وحين بدأت أيام الجائحة، وعاودنى الحنين للموسيقى اليونانية التى تشبه فى بعض مواضعها نحيب النساء العاجزات، وفى مواضع أخرى بهجة الحب فى بداياته، وفى مواضع ثالثة سلام التسليم لأقدار الله، حين عاودنى الحنين إلى تلك التوليفات، أنصتُ بهدوء حذْر، مقررة أنه حان وقت الكتابة عن الأمر.
(3)
مع بداية الحجر المنزلى، بدأت تزاورنى أحلام بخلاف التى كنت أرى فى باقى أيام الله.. بدت أحلامى أكثر وضوحاً، ألوانها وأضواؤها وأصواتها أقرب وأكثر دراماتيكية، كأنها أفلام مجسّمة! أو كأن ما لم يكن عقلى الباطن يجد فرصة لحبكته فى الأيام العادية، مع النوم القصير المنهك بلهاث أسبوع العمل الطويل، قد وجد أخيراً متنفساً مع التزام المنزل لساعات طويلة، فبدأ يزدهر ويفصح عن عناصره الخفية، مع لمسة سينمائية مميّزة!
ليست أحلامى فى أيام الجائحة جميعها مفزعة.. بل على العكس، كثيرها جاء رائقاً مبهجاً، وجدت فيه أصدقاء طفولتى يضاحكوننى، أو يصحبوننى فى مياه غير عميقة تحت شمس دافئة!
بعض موتاى زاورونى كذلك.. وأطياف أخرى لأناس لا أعرفهم، يأتون إلى منامى فى هدوء ويرحلون دون أن يقدّموا تفسيراً لوجودهم فى جنبات لاوعيى، أساساً!
فى البداية، ظننت أن الأمر يخصنى وحدى، حتى قرأت تقريراً صحفياً عن أحلام الآخرين، وكيف تغيّرت فى زمن الكورونا، فطغت عليها المخاوف والهواجس والأسئلة المعلقة بغير إجابات، وكيف بدأ كثيرون يعدلون جرعات عقاقيرهم النفسية تباعاً، لأفهم أن للجائحة سطوتها على عالم النوم كما الصحو على هذا الكوكب.
(4)
فى أحد تقارير «واشنطن بوست» الصحفية التى نُشرت مؤخرا، وجدتُ توليفة من أحلام الناس المرتبطة بالمخاوف من الجائحة، بوصفها المجهول الذى يلف الكوكب، حاملاً فى طياته مصيراً لا تحكمه قواعد منطقية، مثل أحلام الوحوش الخفية التى تطارد الأحباء والديدان الكبيرة التى تهرول وراء الرائى، أو النفى إلى مستعمرة مقفرة على الكوكب الأحمر!
وقد عرفت باستعراض التقرير كيف أن الباحثة ديردر باريت، المتخصّصة فى مجال الأحلام والأستاذة المساعدة فى علم النفس بجامعة هارفارد، تعكف مؤخراً على تجميع الأحلام ذات الصلة بـ«كوفيد - 19 بعد أن قرأت بصورة غير رسمية على صفحات التواصل والمدونات كيف أثر الوباء على مملكة الأحلام وأربكها لدى الكثيرين، وقد نجحت الباحثة بالفعل فى جمع نحو 7000 حلم رواها قرابة الـ3000 متطوع، وهى الأحلام التى جاءت فى مقدمتها رؤية «غزو الحشرات» تعبيراً عن الخوف من الفيروس الذى اجتاح الكوكب فى غفلة من البشر.
فى تقرير آخر نشرته «بى بى سى»، وجدت أن المعالجة النفسية فيليبا بيرى طلبت من متابعى صفحتها على «تويتر» أن يشاركوها أحلامهم التى تزامنت مع الجائحة، فجاءت النتيجة بأحلام كثيرة مليئة بالمياه الجارفة، وهو ما تفسره الباحثة والمعالجة بجيشان المشاعر المصاحب لحالة الخوف والتشبث بالبقاء التى يحياها المجموع.
لكن يظل الأطراف من بين حكايات العقل الباطن فى زمن الجائحة، هو ما رواه البعض عن أحلام راودتهم كان أبطالها «الحبيب السابق» أو «الحب الأول» أو «حبيب المراهقة» وكيف أن تلك الفترة التى تقلّبت فيها مكونات لاوعيهم استعادوا مع التقلّب صوراً للأحباء يعتذرون عن أشياء مؤلمة، أو يطمئنون خواطرهم فى وقت الهلع أو يستنجدون بهم فى خوف من المجهول، فوجدوا أنفسهم يبحثون فى دفاتر هواتفهم القديمة عن أرقام تليفونات أحباء لم يسمعوا منهم ولا عنهم منذ عقود من الزمن..ويالغرابة ما فعل ويفعل بنا ذاك الكورونا!