الأضحى حج إلى أماكن إبراهيم، سر المكان والزمان، لقد أخذت هاجر ٣ أيام لتصل إلى البئر، وهى أقصى مدة لتحمل العطش، ثم أخذ إبراهيم يومين للسعى مع إسماعيل لإقناعه بالذبح، وأخذ كلاهما ٣ أيام لحمل الحجارة المبعثرة من جدار الكعبة، المهدم وهدم الأوثان لتطهيرها بعد سيل نوح، وبعدما طمرتها الرمال، وأخذ يوماً كاملاً لتكتمل حدود البيت، ويحجا معاً لأول مرة حجاً صحيحاً ويطوفا حول الكعبة، لتكتمل العشر من ذى الحجة، وبتمام الحج سجد إبراهيم فى موضع مقامه شاكراً لأنعم الله عليه، ويلين الحجر تحت قدميه تسبيحاً، والمتتبع لأماكن الحج سيجد أنها نفس الأماكن التى ارتادتها لأول مرة هاجر بسعيها للماء وانفجار بئر زمزم تحت قدمى طفلها، وكذلك إبراهيم بسعيه لذبح ابنه، وإسماعيل بطاعته للذبح بيد أبيه، ثم إعادة بناء الكعبة بإبراهيم وإسماعيل معاً، والغريب أن العبادات كلها عبادات أماكن وأزمان، فالقبلة كانت ناحية بيت المقدس طوال عهدى اليهودية والمسيحية، وهذه البقعة هى الأرض المباركة التى عهد القرآن أن يسميها الأرض التى باركنا فيها، والتى رفض بنو إسرائيل أن يدخلوها حين قال لهم موسى ادخلوا الأرض.
وقد ارتبطت حدود الأرض بما ورد فى سورة التين، حين حدّدت الأقاليم النباتية لها بالتين عند ساحل المتوسط، والزيتون فى وسط سيناء، شاملة عيون موسى وجبل الطور رمزين لتجلى الله، ولذلك يُسمى جبل التجلى، ثم مكة المكرمة، وهذا البلد الأمين، فى إشارة واضحة إلى المكان الوحيد الذى لم يرتبط بإبراهيم، ومن المؤكد أنه لم يرتبط بأى نبى سابق، إلا أن يكون كما جاء فى الحديث أنه عرفة الذى تعارف فيه آدم وحواء، بعد نزولهما الأرض، لذلك آخر حدود الأرض المباركة شرقاً هو جبل عرفة، وليست بعده حدود لأى ديانة سماوية، وحدودها غرباً القدس عند ساحل المتوسط، وحدودها جنوباً ساحل خليج السويس، الذى أغرق فرعون، وسار فيه موسى وبنو إسرائيل، وحدودها شمالاً جبل الطور أو جبل التجلى، وقد اعتبر القرآن أرض سيناء أرضاً مصرية خالصة حينما رفض بنو إسرائيل أن يدخلوا الأرض المباركة فى القدس، فقال لهم اهبطوا مصراً، فهذا إعلان سياسى إلهى بملكية مصر لأرض سيناء، لا ينازعها فيها أتباع موسى، فهم ضيوف عليها، أهلاً وسهلاً، ولكن غير ذلك لا ملكية ولا وطن لهم فيها، فالقرآن يكذّب ادعاءهم عن أرض الميعاد من النيل إلى الفرات.
ولقد شرح القرآن فى عدة مواضع أماكن الحج التى بدأت بمكة نفسها ودعاء {إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} آية ١٢٦ البقرة، فحدد مكة نهاية مطاف الحجاج والمعتمرين وحدّد موضع البيت الخاص بالحج فيها {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} آية ١٢٥ البقرة، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} آية ١٢٧ البقرة، وذلك هو المكان الثانى المحدد بعد مكة {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ، والمكان الثالث هو السعى فى مسار ذبح إسماعيل ومحاولة الشيطان إثناءه ٣ مرات، فيرميه بالجمرات الثلاث، ونحن نرميه بالجمرات الثلاث، ومعناها أن فترة إغراء إبراهيم بعدم الذبح التى استغرقها معه إبليس ٣ أيام كاملة، وهو يهرب منه أحياناً ويرجمه أحياناً، وفى كل هذا إسماعيل يحثه على ذبحه!، والمكان الخاص بموضع قدمى إسماعيل الرضيع ملحق بالسعى بين الصفا والمروة، ومن الواضح أن عبادة الأصنام كانت منتشرة، لأن إبراهيم وهو يترك إسماعيل فى وادى بكه دعا دعاءين أحدهما لإسماعيل بالنجاة، والآخر بهدم الأصنام، واجنبنى وبنى أن نعبد الأصنام!، وحتى الآن فإن أفئدة المسلمين تنفطر وتهوى الذهاب إلى مكة بدعوة إبراهيم واجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، وتجد أن كل ثمار العالم تُستورد على اختلاف الموعد، صيفاً وشتاءً، لتجدها فى محال مكة أمامك بدعوة إبراهيم، وارزقهم من الثمرات، والمكان الخامس هو جبل عرفة، الذى جاء ذكره مضمّنا فى سورة التين، وهذا البلد الأمين، وبعدها تكرّرت الإشارة إليه {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} ، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ}، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} ، فهذا هو النسك الأعظم فى الحج، ثم ذكر {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً من ربِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم منْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} مرتبطاً لترتيب خطوات الحج بأن تصعدوا جبل عرفات، فهذا هو صحيح السنة، بدليل فإذا أفضتم، أى هبطتم من جبل عرفة، وفى الطريق إلى منى، فصلوا عند المزدلفة، ثم رمى الجمرات بعد ذلك فى منى، وقد أثبتت الآيات الخاصة بعرفات وأحاديث الرسول أن سيدنا إبراهيم من الممكن أنه عرف جبل عرفة وصعده تخليداً لمعرفة آدم وحواء عليه، وأنه سار من عرفة هابطاً، إلى المزدلفة التى سماها الله المشعر الحرام، وهذه قدسية عجيبة لا نعلم سرها!
إذاً فإن المكان السادس بعد عرفة هو المشعر الحرام، أى المزدلفة، والمكان السابع هو منى التى ترمى فيها الجمرات، ليختتم الحجيج رحلة إبراهيم من مكة إلى عرفة ثم العودة إلى مكة، ويبدو أن هذا مسار سيدنا إبراهيم الذى جاء رسولنا محمد لإحيائه، والمكان الثامن هو مكة والبيت الحرام مرة أخرى بطواف الإفاضة.