الحجاج بن يوسف الثقفى من الشخصيات شديدة الإثارة فى تاريخ الإسلام. مثل الحجاج «عصا التأديب» التى استخدمها الخليفة الأموى عبدالملك بن مروان ضد من يتمرّدون على خلافته. كانت العراق قد دانت كاملة للخليفة الأموى بعد القضاء على ثورة الشيعة التى قادها المختار بن أبى عبيد، وكذا التخلص من مصعب بن الزبير شقيق عبدالله بن الزبير، وبدأ فى التفرّغ لإخضاع الحجاز، حيث كان عبدالله بن الزبير، قد تمكن من أمره هناك، فقرر عبدالملك أن يحرك جيشه للقضاء عليه.
فى هذه الأثناء ظهرت شخصية «الحجاج» على مسرح الأحداث، خصوصاً أنه قام بدور مهم فى القضاء على مصعب بن الزبير بالعراق، وأصبح مطلوباً منه أن يُتم مهمته، فيقضى على أخيه عبدالله بالحجاز. وكان ذلك سنة اثنتين وسبعين من الهجرة. وفيها بعث عبدالملك بن مروان، الحجاج بن يوسف الثقفى إلى مكة، لمحاصرة «ابن الزبير». وكان السبب فى بعثه له دون غيره أن عبدالملك بن مروان لما أراد الرجوع إلى الشام بعد قتله مصعباً وأخذه العراق، دعا الناس إلى قتال عبدالله بن الزبير بمكة، فلم يجبه أحد، فى هذه اللحظة قام «الحجاج»، وقال يا أمير المؤمنين: أنا له.
تحرك «الحجاج» سريعاً إلى الحجاز، وحاصر عبدالله بن الزبير، وتواصل حصاره له خمسة أشهر وسبع عشرة ليلة، وقد نصب الحجاج المنجنيق حول مكة ليحصر أهلها، حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة، واعتمد الحجاج على أفراد من الحبشة، فجعلوا يرمون بالمنجنيق فقتلوا خلقاً كثيراً، وكان معه خمسة مجانيق، فألح عليها بالرمى من كل مكان وحبس عن أتباع «ابن الزبير» الطعام والماء، فكانوا يشربون من ماء زمزم، وأخذت الحجارة تقع فى الكعبة والحجاج يصيح بأصحابه: يا أهل الشام، الله الله فى الطاعة. فكانوا يحملون على «ابن زبير»، فيشد عليهم وليس معه أحد حتى يخرجهم، ثم يكرون عليه فيشد عليهم.
فعل «الحجاج» ذلك مراراً وقتل يومئذ جماعة منهم. وقيل لابن الزبير: ألا تكلمهم فى الصلح؟. فقال: والله لو وجدوكم فى جوف الكعبة لذبحوكم جميعاً، والله لا أسألهم صلحاً أبداً. وذكر غير واحد -كما يحكى ابن كثير- أنهم لما رموا بالمنجنيق جاءت الصواعق والبروق والرعود، حتى جعلت تعلو أصواتها على صوت المنجنيق، ونزلت صاعقة فأصابت من الشاميين اثنى عشر رجلاً، فضعفت عند ذلك قلوبهم عن المحاصرة، فلم يزل الحجاج يشجعهم ويقول: إنى خبير بهذه البلاد. هذه بروق تهامة ورعودها وصواعقها. وإن القوم يصيبهم مثل الذى يصيبكم. وجاءت صاعقة من الغد فقتلت من أصحاب «ابن الزبير» جماعة كثيرة أيضاً، فجعل الحجاج يقول: ألم أقل لكم إنهم يصابون مثلكم، وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة!.
الواضح أن الحجاج بن يوسف الثقفى كان شخصية «كاريزمية» بالمصطلح الحديث، يتميز بعقل متوهج، قادر على قراءة الواقع والأحداث، وإقناع المخالفين له بوجهة نظره، وقيادتهم بسلاسة نحو ما يريد. ولعل أكبر دليل على ذلك هو قدرته على دفع جنوده إلى القيام بهذا العمل الجلل والخطير بضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق، وهو أمر لا يسهل على جنود مسلمين أن يمتثلوا فيه لأوامر قائد، إلا أن يكون شخصاً يتمتع بتركيبة خاصة، وقدرة لا تبارى على فهم أمور الصراعات السياسية والعسكرية بعمق، وكفاءة فى نقل أفكاره ووجهات نظره -المتصلة بخطوات خطيرة- إلى جنوده، بأعلى درجات السهولة والبساطة.