يقول الإمام الشافعى: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدى المساويا
يعبر بيت الشعر هذا أفضل تعبير عن موقف بعض العرب من تركيا وحزب العدالة والتنمية وأردوغان، حيث يتشدق عملاء تركيا وأذنابها، وبعضهم للأسف يحمل الجنسية المصرية، بالحديث عن قوة تركيا، ويقدمونها باعتبارها الحارس الأمين للإسلام وللمسلمين. أكثر من هذا، يصل البعض إلى الحديث عن الرئيس التركى باعتباره «الخليفة العثمانى» الجديد، الذى سيعيد إحياء مجد الإمبراطورية الآفلة. وعلى هؤلاء وأمثالهم من الذين يهللون لتركيا ويستمرئون التبعية لها أن يتذكروا الحقائق التاريخية التى تثبت أن تركيا العثمانية التى كانت تستأسد على العرب، ظلت لعدة قرون تحت حكم «الخلفاء السلاطين» تستجدى أسيادها من الدول الكبرى «الكافرة»، كى يسمح لها بالجلوس إلى جانبهم، ولو على مقعد حقير. وقد حافظت تركيا على هذا النهج فى التاريخ الحديث والمعاصر، سواء فى ظل سيطرة الاتحاديين فى العقد الأول من القرن العشرين، مع استمرار الخليفة السلطان، أو مع تأسيس الدولة العلمانية فى العقد الثانى من القرن العشرين على يد أتاتورك، أو فى ظل حكم حزب العدالة والتنمية مع أردوغان. يؤكد ذلك الحقائق الآتية:
أولاً: عندما تمكن الجيش المصرى بقيادة إبراهيم باشا من إلحاق هزيمة نكراء بالجيش العثمانى عام 1833، تدخلت القوى الكبرى «الكافرة» لإنقاذ «الرجل المريض» الذى أدخلته الهزيمة المروعة من الجيش المصرى مرحلة الاحتضار، وفرضت صلحاً منع الجيش المصرى من استكمال سيره نحو إسطنبول.
ثانياً: لم يحترم العثمانيون الاتفاق وظنوا بعد ست سنوات فقط أن بإمكانهم دحر الجيش المصرى، فأقدموا على نقض الصلح والهجوم على الجيش المصرى داخل حدود تركيا الحالية، ومرة أخرى، تلقى الجيش التركى هزيمة مروعة، واستسلم الأسطول التركى للأسطول المصرى، ولم يتحمل السلطان العثمانى محمود الثانى تلك الكارثة فتوفى كمداً. وفقدت دولة الخلافة المتداعية السلطان والجيش والأسطول فى أيام قلائل عام 1839.
وأصبح الطريق ممهداً أمام إبراهيم باشا للتقدم نحو إسطنبول والقضاء على ما تبقى من إمبراطورية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتأسست على النهب والسلب ولم تترك أى أثر يعبر عن مظهر من مظاهر الحضارة.
ومرة أخرى، اتفقت معظم الدول الكبرى «الكافرة» آنذاك بقيادة إنجلترا فيما عرف باتفاقية لندن على التدخل لإنقاذ «دولة الخلافة»، وإجبار الجيش المصرى على الانسحاب من الأراضى التركية ومن الشام.
ثالثاً: لا تذكر كتب التاريخ شيئاً عن موقف دولة الخلافة عندما احتلت فرنسا الجزائر عام 1830 وتونس عام 1881، وإيطاليا ليبيا عام 1911.
بل لقد استجاب الخليفة السلطان لرغبة إنجلترا فأقدم على عزل الخديو إسماعيل عام 1879، وأعلن عصيان الزعيم المصرى أحمد عرابى، الذى كان يقاوم مع الجيش المصرى محاولة إنجلترا احتلال مصر عام 1882.
ويعنى ذلك أن «دولة الخلافة» قد رأت فى مقاومة الجيش المصرى للاحتلال الإنجليزى عصياناً!!!
رابعاً: ظل بعض المقاومين العرب للاحتلال الإنجليزى والفرنسى والإيطالى يراهنون على دولة الخلافة، مثل مصطفى كامل فى مصر والحركة السنوسية فى ليبيا، لكنهم لم يجدوا آذاناً صاغية، لا قبل سيطرة الاتحاديين عام 1908 ولا بعد ذلك.
خامساً: فى ظل كل الضعف والهوان التركى المستمر لعدة قرون، استخدم الأتراك كل صور العنف والاضطهاد، بما فى ذلك الحكم بالإعدام، عشية وبعيد اندلاع الحرب العالمية الأولى، ضد العرب الذين انتفضوا فى الشام ضد الحكم التركى البغيض.
سادساً: ظل «دراويش» السلطان عبدالحميد الثانى حتى وقت قريب يعيشون فى وهم رفضه الشديد الهجرة اليهودية إلى الأراضى الفلسطينية، حتى ثبت مؤخراً كذب هذه الادعاءات، وأن البطل المزعوم لم يمنع العصابات الصهيونية من التسلل إلى الأراضى الفلسطينية إبان فترة حكمه، وأن الهجرة اليهودية قد بدأت تتزايد فى عهده.
سابعاً: حافظت تركيا الحديثة على علاقات شديدة التميز مع القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت، ولا تزال، عضواً فاعلاً فى حلف شمال الأطلنطى مع الدول «الكافرة»، واستخدمت أراضيها مراراً من قبل قوات الحلف للاعتداء على أراضى دول عربية.
ثامناً: تستمرئ تركيا الاعتداء على الأراضى العراقية والسورية، وتدعى كذباً حقها فى منع العراق من الحصول على حقوقه المائية فى نهرى دجلة الفرات، وسوريا من الحصول على حقوقها المائية فى نهر الفرات.
وتزعم تركيا أن لها حقوقاً فى مناطق سورية وعراقية تقع داخل إقليم الدولتين العربيتين المستقلتين منذ عشرينات وأربعينات القرن العشرين.
تاسعاً: كانت تركيا من أوائل الدول التى اعترفت بإسرائيل بُعيد إعلان تأسيسها، وتبادلت معها التمثيل الدبلوماسى، وحافظت منذ هذا الاعتراف، على علاقات ثنائية متميزة فى جميع مجالات التعاون الاقتصادى والعسكرى.
وكان من اليسير تجاوز أى توتر عابر فى العلاقات، حتى عندما أقدمت إسرائيل على الهجوم على السفينة مرمرة والاستيلاء عليها، وقتل وأسر من كانوا على متنها.
ومرة أخرى، تعامل مريدو تركيا مع تلك الحادثة باعتبارها تحريراً للقدس وتأسيساً للدولة الفلسطينية المستقلة على كامل أراضى فلسطين.
عاشراً: أقدم أتاتورك على إلغاء الخلافة الإسلامية، وأسس الدولة التركية الحديثة على أساس مبدأ العلمانية، أى فصل الدين عن الدولة.
ولا تزال صورة أتاتورك الضخمة مرفوعة فى جميع المؤسسات الرسمية التى يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية.
ولم يقدم «الخليفة المزعوم» على محاولة إلغاء ذلك المبدأ من الدستور التركى، مثلما أقدم على تعديل النظام السياسى.
وهل يعلم العرب من مريدى حزب العدالة والتنمية «الإسلامى» أن قضايا الأحوال الشخصية، مثل الزواج والطلاق والإرث، تتم فى تركيا وفقاً للقوانين «الكافرة» وبمنأى عن الشريعة الإسلامية؟ وهل يرون أن هذه الدولة هى المؤهلة لزعامة المسلمين؟
حادى عشر: لم يكن موقف تركيا من «الخريف العربى» إلا استمراراً لدورها الخاضع والذليل للقوى الغربية، فقد كان موقفاً تابعاً للموقف الأمريكى فى ظل إدارة أوباما غير المأسوف عليها، التى كانت تسعى من خلال تغيير عدد من الأنظمة العربية إلى إعادة ترتيب المنطقة وفقاً للرؤية الأمريكية.
وقد بدأت تتسرب مؤخراً بعض المعلومات الأمريكية عن سعى إدارة أوباما إلى تأسيس نظم تشبه نظام العدالة والتنمية ويرأسها أصدقاء أردوغان، لتيسير السبيل أمام إنهاء القضية الفلسطينية وفقاً للرؤية الإسرائيلية، وما صفقة القرن إلا محاولة لإعادة إحياء ما خططت له إدارة أوباما، وتم وأده فى مهده.
وكانت تركيا تنتظر ما سيمن به عليها حليفها الأمريكى فى حالة اكتمال المخطط الخبيث.
ثانى عشر: لم تحقق تركيا ما كانت تصبو إليه، وتحول «ربيع تركيا وحلفائها العرب» إلى كابوس؛ ومن ثم، شرعت فى الانتقام ممن أفشلوا المخطط، وفى مقدمتهم مصر.
وسعت لتأييد من تبقى من عملاء المخطط الأمريكى التركى. فقد تدخلت عسكرياً فى الشمال السورى وفى الغرب الليبى لتأييد العصابات المسلحة، وحظيت فى الحالة السورية بمباركة واضحة من إدارة أوباما والقوى الغربية، وفى الحالة الليبية بمباركة مستترة من إدارة ترامب ومن عدد من القوى الأوروبية.
ثالث عشر: تستضيف تركيا معظم المعارضين المصريين، وتبث معظم القنوات الفضائية المعادية لمصر من الأراضى التركية، وتتحالف مع حكومة الميليشيات غير الشرعية فى طرابلس فى مواجهة حكومة الشرق المنبثقة عن مجلس النواب المنتخب والمدعومة من مصر.
وعلى هؤلاء أن يتذكروا أن عدداً من النظم العربية المناوئة للسياسة المصرية فى أواخر السبعينات من القرن الماضى، استضافت عدداً من المعارضين المصريين، وأغدقت عليهم الأموال، وأسست لهم صحفاً ومجلات فى بعض العواصم الأوروبية، وقد ذهب كل ذلك جفاء وبقى ما ينفع جموع المصريين.
رابع عشر: على أردوغان ومريديه من العرب أن يتذكروا أن ضباط وجنود الجيش المصرى عام 2020، وترتيبه التاسع عالمياً، هم أحفاد ضباط وجنود الجيش المصرى بقيادة إبراهيم باشا، الذى أذل جيش الدولة العثمانية مرتين فى ست سنوات، فقضى على الجيش العثمانى بالكامل، واستسلم له الأسطول العثمانى دون قتال، وتسبب فى وفاة السلطان حزناً عندما علم بأخبار الهزيمة المروعة.
* أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية جامعة القاهرة