من كتّاب السيرة النبوية، إلى الجبرتى وعبدالرحمن الرافعى، إلى عاصم الدسوقى وقاسم عبده قاسم وجمال شقرة، وقبلهم طبعاً رؤوف عباس ويونان لبيب رزق، مع حفظ الألقاب لهم جميعاً، كانت كتابة التاريخ عملاً ذكورياً يكاد يكون خالصاً حتى استطاعت الدكتورة لطيفة سالم أن تضع حداً لهذا الانطباع الذى صار خاطئاً.. ليس لتصديها لدراسة التاريخ ثم قراءته حتى كتابته لكن لأنها تميزت فى ذلك إلى حدود لم يصل إليها الكثير من المؤرخين.. على مستوى الجهد المبذول وعلى مستوى الإنتاج وغزارته وما قدمته للمكتبة العربية من عناوين ودراسات وأبحاث ومقالات..
وربما يكون مفيداً معرفة السيرة الذاتية للمؤرخة الدكتورة لطيفة سالم للوصول إلى منهجها فى كتابة التاريخ، وصولاً أيضاً إلى النتائج الخطيرة والمهمة التى توصلت إليها فى أبحاثها وجهودها خصوصاً لتناولها وقائع تاريخية شغلت كتابات الكثيرين سلباً وإيجاباً.. رفضاً وقبولاً.. لكن عندها وفى كل الأحوال ليست حواديت تحكى ولا إنشاء تروى، إنما علم له قواعد يجب اتباعها لتحقيق حادثة تاريخية أو واقعة معينة..
فمثلاً.. كى تكتب كتابها الأشهر «فاروق وسقوط الملكية فى مصر» استعانت بالأرشيف البريطانى للوثائق حتى أطلقت ما يشبه المعسكر هناك لدراستها لتقرأ كل تقرير وكل رسالة مشفرة وغير مشفرة أرسلت من السفارة الإنجليزية فى مصر عن الملك من المندوب السامى أو السفير أو رجال المخابرات البريطانية حتى استغرقت فيها تماماً لتصف الحالة التى كانت عليها بأنها كانت فى صراع من الخوف من تضخم المادة الوثائقية وما فى ذلك من صعوبة ومشقة وفى الوقت نفسه الحرص على عدم إسقاط أو استبعاد أى مراسلة انطلقت من القاهرة إلى لندن! هل تكتفى بذلك؟ لا.. لم تكتف بذلك بل اعتمدت على المذكرات الخاصة المخطوطة والتى لم ينشرها أصحابها واكتفوا بكتابتها، والمذكرات الأخرى المنشورة من الذين يؤيدون الملك ومن خصومه، وكذلك استعانت بأرشيف سجلات جلسات البرلمان المصرى ومناقشاته والدوريات، وبعضها ظل حبيس المخازن حتى كانت أول يد تستعين بها بعد سنوات طويلة، وكذلك المراجع التى أنجزها آخرون! كل ذلك قبل أن تكتب كتاباً عن الملك!! بينما آخرون يخرجون إلى الناس يقدمون حواديت لا معنى ولا أصل ولا قيمة لها إلا من الانطباعات الشخصية أو لمجرد قراءتهم لكتاب أو اثنين ثم يطلقون على أنفسهم لقب مؤرخ أو مؤرخة!!!
وحتى لا نثير فضول الناس أكثر من اللازم وماذا توصلت عن حياة الملك نقول إنها توصلت إلى الحل الموضوعى لشخصية الملك؛ ففصلت بين تاريخين.. الأول الملك الجديد الذى تولى عرش مصر وهو فى السادسة عشرة من عمره خلفاً لملك قاسٍ عانى منه حتى مَن فى القصر، وبين صبى صغير لطيف وسيم أحبه المصريون فوراً ووضعوا صوره فى كل مكان.. وبين الملك الذى استقر فى الحكم وبدأت شلل مختلفة تحيط به ليعرف السهر والقمار والنساء!
وعن الأسلحة الفاسدة تتوصل إلى وثيقة رسمية كانت بحوزة شخص اسمه «جهلان» كان مسئولاً عن مشتريات القصر وبها أنواع الأسلحة المشتراة وثبت أنها أولاً من مخلفات الحرب العالميّة الثانية، وثانياً كانت ضمن مزاد أو «أوكازيون» لبيع الأسلحة للدول الفقيرة واشترتها مصر!
أدلة أخرى تضيفها الدكتورة لطيفة سالم؛ ومنها أن حيدر باشا، قائد الجيش، هو من أحال للنائب العام قضية الأسلحة الفاسدة للتحقيق فيها دون إذن الملك فما كان إلا أن أقاله الملك هو وعثمان المهدى، رئيس الأركان، وعدداً من كبار القيادات، وقائد البحرية!!! ثم يُنعم الملك على جميع المتهمين بأوسمة ونياشين!!! والأسوأ والمثير للدهشة هو طلب الملك من مصطفى النحاس باشا الاعتذار للمتهمين باعتبارهم حصلوا على البراءة.. فاستجاب «النحاس» فعلاً ببيان فى 31 مارس بما سماه الإساءة لبعض رجال القصر وحاشية جلالة الملك!!!
إذاً لم يكن الكلام عن نزوات الملك، وعديد من الكتب تتكلم عن سفريات ورحلات للخارج بالأسماء والتواريخ وأسماء الفنادق ومدة الحجز وأسماء الفنانات اللاتى شاركن فيها ونوع الهدايا التى حصلن عليها، وهناك من نشر صور الصحف الأجنبية عن السهرات والمغامرات، ولا عن الأسلحة الفاسدة، محض خيال، ولا بدافع شهوات الانتقام، إنما وقائع تاريخية يجب أن تسجل، ويجب أن تروى حتى من خلال إطار شامل وضعته الدكتورة لطيفة ووفق منهج علمى محدد!
إذاً ماذا نريد أن نقول؟ نريد أن نقول باختصار إن التاريخ علم ينبغى اللجوء لأهله عند تناوله وعند الحديث عنه، وأن نعتبرهم مراجع له وأهل الذكر عنه.. ثانياً أن هؤلاء آن الأوان لهم أن نعتمد عليهم وأن نلجأ إليهم لمعرفة تاريخنا وكتابته بشكل حقيقى وموضوعى وعلمى.. لا هوى فيه ولا عواطف تجنح ناحية المجاملة أو الانتقام.. ثالثاً أنه آن الأوان لتكريم الدكتورة لطيفة سالم.. بالفعل حصلت مبكراً عام 1986 على وسام الفنون والآداب من الدرجة الأولى، ثم قبل ذلك وبعده على جائزتين للدولة التشجيعية والتقديرية، ثم الأم المثالية عام 2012 على مستوى معاهد وجامعات مصر، ودرع اتحاد المؤرخين العرب، وغيرها من الجوائز، لكن كل ذلك تم دون الاستفادة من علمها وخبراتها؛ لا فى مناهجنا التعليمية، ولا فى إعادة كتابة تاريخنا المزيف المزور على صفحات التواصل وفى كتب وإصدارات وإعلام جماعة الإخوان سعياً للإساءة إلى ثورة يوليو ومنها إلى أبناء الجيش العظيم وتشويه قدرات أبنائه للعطاء فى العمل السياسى وهو السعى الشرير والخبيث الممتد حتى اليوم!
لقد ضربنا مثالين من كتب الدكتورة لطيفة سالم ليس لموقفنا من عهد الاحتلال البريطانى البغيض.. وإنما لأسباب مختلفة منها أن الواقعتين فى أشهر كتب مؤرختنا الكبيرة أولهما الكتاب المذكور سابقاً، فضلاً عن كتاب «فاروق من الميلاد إلى الرحيل»، وثانياً لأنهما أثيرا بشدة الفترة الماضية وأفتى فيهما كل من لا علاقة له بالتاريخ.. لا شكلاً ولا موضوعاً.. ثالثاً أن من يبذل جهداً خرافياً للوصول إلى وثائق من هذا النوع والأهمية يمكنه شرح وتحليل وكتابة ما دونهما وأقل فى الأهمية والخطورة منها، وبالتالى تستحق الدكتورة لطيفة المتابعة..
نقف أمام مؤرخة حصلت على الماجستير والدكتوراه ودرست التاريخ وتدرسه.. وسافرت وتعبت، كدت واجتهدت.. تشارك بالعضوية فى اثنتى عشرة لجنة علمية، فضلاً عن عضويتها ورئاستها لجان منح الماجستير والدكتوراه لعشرات الرسائل.. نقف أمام مؤرخة قدمت أربعة عشر مرجعاً تاريخياً، أهمها أيضاً «مصر فى الحرب العالميّة الأولى»، و«تاريخ القضاء المصرى الحديث»، و«القوى الاجتماعية فى الثورة العرابية»، وشاركت بالدراسة والتحقيق فى ثلاثة عشر موضوعاً مهماً، منها «ذكرياتى عن الثورة» عن مذكرات سليمان حافظ، ومنها «تحقيق مذكرات سعد زغلول»، وشاركت فى تحرى 6 مطبوعات، أهمها «المرأة المصرية فى التاريخ الحديث والمعاصر»، وشاركت حتى اللحظة فى ستة وستين بحثاً علمياً، أهمها «الفلاحون والسلطة 1881 - 1882»، و«صراع المرأة من أجل الالتحاق بالجامعة»، و«محمد عبده ثائراً»!
الدكتورة لطيفة سالم قامة كبيرة جداً.. تستحق ونستحق أن نراها ونعرف عنها ونتعلم منها، وتستحق عن جدارة أن تكون واحدة من «عظيمات مصر».. عظيمات شعبنا!