منذ دخل التليفزيون مصر، وحتى سنوات أواخر التسعينات، وربما بداية الألفية الثانية، كان هناك قدر من المعالم لدور «المذيع»، وكان المتعارف عليه هو هذه التسمية «مذيع» وليس «إعلامى»، التى لم تكن تنتقص على الإطلاق من كيانات حقيقية حظيت بتقدير واحترام وحب الناس.. كيانات تعى جيداً رسالتها وحدود الرسالة.. من برامج الأطفال وحتى برامج السياسة والثقافة، ومن برامج المرأة إلى برامج المنوعات، كانت هناك مُحدِّدات لدور المذيع أو المذيعة، ليس من بينها على الإطلاق لا إطلاق الأحكام القاطعة وارتداء ثوب الحكمة، ولا إعادة تربية المشاهد، ولا الوعظ والصراخ فى وشه.. وهو الحال الذى آل إليه أغلب المذيعين بعد أن أُطلق عليهم «إعلاميون»، أو هم أطلقوا على أنفسهم اللقب، ربما لأن كلمة مذيع لم تُشبع تطلعاتهم أو نهمهم لدور متجاوز لحقيقة ما هو مطلوب.
ما هو دور المذيع، وما هى الحدود، وما علاقة هذا الدور بما آلت إليه أساليب المذيعات والمذيعين على شاشاتنا المصرية؟ لدينا متقمصون ومتقمصات لأدوار زعماء ومربين ومربيات لزوم إعادة تربية المشاهد، وخبراء وقضاة وأصحاب فتاوى وناصحون ومتنصحون وآخرون «ماسكين للمشاهد عصاية».. نتيجة أن اللقب السارى على من يعتلون تبّة الشاشات لقصف عقولنا وأدمغتنا هو لقب فضفاض «إعلامى»، ولأن معايير الاختيار لمن يطل على الناس من منصة عامة، لم تعد واضحة لا للمشاهد ولا حتى لمن يختارهم، أصبحت الفجاجة والركاكة ترتدى ثوب الحكمة وترى فى نفسها الأهلية، ليس فقط بالنصيحة ولكن بإطلاق أحكام قاطعة، فى أى مجال مهما بلغت دقته أو حساسيته، ورأينا من أفسدوا أو أفسدن علاقاتنا بدول، ومن خيّرنا بين أن نقبل ما يقول به أو نطلع من البلد، وأخيراً كانت واقعة الأخت المذيعة التى نصبت من نفسها ليس حكماً ولكن مفتياً، يؤلب نصف المجتمع على نصفه الآخر، ودخلت فى حيز شديد الدقة، قد لا يملك حتى عتاة الشيوخ على إصدار مثل ما تفوهت به من أحكام مطلقة حول من هو أحسن عند الله ومن هو أدنى، ومن غلبه شيطانه ومن ومن... هل ممكن تتخيل ليلى رستم، بكل ذكائها وثقافتها وكياستها، تواجه سؤالاً حول قضية مثل قضية الحجاب؟ وبصرف النظر عن التفاصيل الفقهية، وأن كلاً مسئول عن اختياراته ويتحمل مسئوليتها، وبكون ردها أن غير المحجبة شيطانها غالبها والمحجبة أحسن منها.. وتفيض وتزيد بثقة منقطعة النظير مين فى الجنة ومين فى النار!؟ بلاش ليلى رستم، الأستاذة سناء منصور التى ما زالت تضىء أى شاشة، هل يمكن أن نتصور ردها أو معالجتها لنفس السؤال، بأن غير المحجبات «شيطانهم غالبهم» والمحجبات فى طاعة ربنا والمحجبة أحسن واللى مش محجبة أوحش؟
أعرف أن تحقيقاً يجرى، لكن الفكرة أنه لم يعد هناك حدود لأى واحد يعتلى «تبّة» البث من خلال الشاشة، وبالتالى استتبع ذلك نوعاً من السيولة، بلغت حداً لا يختلف كثيراً عن فوضى التعديات والبناء العشوائى، بل أستطيع الادعاء أن أغلب ما يجرى بثه على الناس صار أكثر ضرراً من حيث هدم البنية العقلية، وإشاعة التزلف، والنزول إلى حضيض أنواع من التزلف الاجتماعى المربك إلى درجة الإفساد.. المط فى دور المذيع ليصبح فى أغلب الأحوال مُنظّراً ومصلحاً اجتماعياً وحكيماً واقتصادياً وسياسياً وقائداً وملهماً، تجاوز كل الحدود، ولا أعرف بالضبط كيف يمكن «التقويم»، فى ظل قدر لا بأس به من الاعتماد الجمعى والمجتمعى فى تلقى المعلومة على الشاشة (وبالطبع مع الاعتراف بحيز وسائل التواصل الاجتماعى) يعنى هذا الذى لا أعرف توصيفاً له، والذى بموجبه يستطيع أى واحد أو واحدة «النحر والنخر» لأدمغة الناس، هو نوع من التعديات التى لا يمكن التصالح فيها، ولا تجدى معها إلا الإزالة والبناء وفق قواعد محددة.