الزى الموحّد التزام وانضباط ومساواة. الزى الموحد، لا سيما فى المدارس من رياض الأطفال، وصولاً إلى نهاية التعليم الثانوى انتماء وهوية ومصالح جماعية. والزى المدرسى الموحّد يعلم الصغار منذ نعومة أظافرهم أنهم يمثّلون مؤسسة واحدة، ولهم هوية محدّدة، وكل منهم سفير لمؤسسته ومدرسته وما تمثله من اسم وقيمة ومحتوى. والهوية المحدّدة لا يُقصد بها أبداً أن يكون الطلاب والطالبات نسخاً مستنسخة من بعضهم البعض لا يفكرون أو يبدعون أو يبتكرون، لكن يقصد بها أن يذوقوا حلاوة الانتماء واحترام المكان وكيفية تمثيله بالشكل الأفضل.
كنا ونحن صغار نعرف بنات المدرسة الفلانية وأولاد المدرسة العلانية بزيهم المدرسى. وكنا - رغم صغر السن- نعرف المدارس التى تُلزم طلابها وطالباتها عناية قصوى أو متوسطة أو هزيلة بزيهم المدرسى. صحيح أننا لم نكن نعى أبعاد هذا الإلزام وأسبابه والغاية منه، لكن مجرد معرفة طفل فى الصف الخامس الابتدائى مثلاً أن مدرسة ما صارمة فى ما يختص بمظهر الطلاب يعنى الكثير.
وأذكر أننا حين كنا نشارك فى فعالية رياضية أو ثقافية أو حتى ترفيهية مع طالبات وطلاب مدارس أخرى كنا نخضع لتفتيش بالغ الصرامة من إدارة المدرسة قبل دخول المكان. «المريلة» نظيفة ومكوية، الشراب أبيض ناصع وتحت الركبة، الحذاء أسود لامع، الشعر ملموم والأظافر مقصوصة. ومجرد فكرة أن يكون أحد أظافر إحدى الطالبات عليه طلاء، أو ترتدى قرطاً كبيراً (الحلق الحمصة وحده كان المسموح به)، أو أن إحداهن تمضغ علكة (لبان)، فهذا أمر جلل يبدأ بالتوبيخ والعقاب بكتابة دروس بأكملها أو الحرمان من المشاركة فى الفعالية، وربما يستوجب استدعاء ولى الأمر.
أعلم تماماً أن الزمن تغير وتبدل، لكن أن يختفى الزى المدرسى بمعناه من مدارس عدة أو يتم إضافة مكون دينى إجبارى إلى الزى إمعاناً فى مقاومة مدنية الدولة والإصرار على الإبقاء عليها فى مستنقع الدولة الدينية، فهذا أمر جلل.
بداية لم يثبت العلم الحديث أن الزى المدرسى «راحت عليه». فتقدم الكوكب وتطور تقنياته ومواكبة العصر أمور لا تتعارض والزى المدرسى. صحيح أن الزى المدرسى واكب العصر، حيث اختفى الزى الكلاسيكى الخشن تقريباً من بدل منشية و«مرايل» غير عملية، وحلت محلهما أزياء عصرية وأحذية رياضية، ولكن تتبع قواعد يتم تطبيقها على الجميع، مع العلم بأن هناك مدارس فى دول عدة ما زالت تتمسك بتلابيب الأزياء الكلاسيكية مع السماح بحذاء رياضى بمواصفات معينة.
قاعدة أخرى جديدة نسبياً يجرى تطبيقها فى مواقع أخرى فى الكوكب بعيدة جداً عنا يسمونها «الحياد بين الجنسين»، وليس «المساواة»، حيث يتم تصميم الزى المدرسى بشكل لا يحبس الإناث فى أدوار نمطية مرسومة لهن مسبقاً. والغاية من هذا «الحياد» هى إتاحة الفرصة للفتيات ليرتدين ما يعتبرنه مناسباً لهن، حيث يكون هناك اختيار بين البنطلون والتنورة، ولكن بمقاييس صارمة لا تخرج عن قواعد الزى المدرسى.
ونعود إلى الجزء الذى يخصّنا من الكوكب، وأتصفح صور والدتى وجدتى الاثنتين، وأجد أنهما كانتا تذهبان إلى المدرسة ترتديان تنانير محتشمة لكن لا تجرجر فى الأرض لتجمع كل ما تيسر من مخلفات. وكانت والدتى تذهب إلى المدرسة بالعجلة، دون أن تتعرّض لوصم بأنها تثير الفتنة، أو سباب يتعلق بازدراء الدين أو كراهية المتدينين. أرى الصور وأمامى فى الوقت نفسه كتابات من إخوة «متدينين جدد» «غيورين على الدين»، تعليقاً على شكوى فتاة مصرية فى المرحلة الثانوية من تعرّضها لكم هائل من التحرش باللمس والعنف، حيث حاول البعض من قائدى السيارات إيقاعها على الأرض، لكن الأبشع هو تأنيب رجال ونساء لها بأنها «ماعندهاش دين»! تعليقات «الإخوة» المتدينين الجدد دارت فى دوائر واحدة، حيث «الإثارة الجنسية» سيدة الموقف والمطالبة بمنع «هذا الفسق» مطلب يوحّد صفوفهم.
وأعود إلى الزى المدرسى، وما يثار حالياً عن مواقف عدة تتعرّض لها طالبات فى مدارس كثيرة حيث إدارة المدرسة أو أشخاص بأعينهم فى المدارس «يجبرون» الطالبات على ارتداء طرحة باعتبارها جزءاً من الزى المدرسى فى مصر! وللعلم فإن الطالبات القليلات جداً اللاتى لا يرتدين هذه الطرحة يتعرضن لضغوط نفسية وتلسينات كلامية تدفعهن إلى ارتدائها حقناً للتوتر. وللعلم فإن هذا التوجّه بفرض طرحة بيضاء على الطالبات موجود منذ سنوات طويلة، وهو تيار يتنامى منذ ظهور التدين الجديد فى أواخر السبعينات، ونما وترعرع ومستمر فى نموه. التفتيش على الطالبات لم يعد فى مدارس عدة للتأكد من النظافة الشخصية أو الالتزام بالزى أو عدم ارتداء إكسسوارات، ولكن للتأكد من أنها ترتدى طرحة. ونضيف من الشعر بيتاً حيث مدارس خاصة ترفض تعيين معلمات لا يرتدين طرحة، وبالطبع يبقى السبب شفهياً.