أسمعت البشرية نداءك العلوى الرائع «إنما أنا رحمة مهداة» للإنسانية وللخلق جميعاً، ليس لجنس أو لون أو مذهب أو عِرق دون آخر. لم تدعُ على قومك رغم تعذيبهم لأصحابك وتضييقهم على دعوتك ومحاولتهم اغتيالك، ومحاصرتهم لك ولأصحابك سنوات فى شِعب أبى طالب حتى أكلوا أوراق الشجر. ورغم سب قومك وشتمهم المتواصل لك يا سيدى، وتطاولهم المستمر على مقامك الكريم بقولهم «ساحر، شاعر، مجنون، كاذب»، فقد رفضت أن يُطبق عليهم الملك الكريم الجبلين، أو أن تدعو عليهم، فهتفت بلسان الصفح والعفو «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون.. اللهم أخرج من بين أصلابهم من يعبد الله». قيل لك «ادعُ على دوس» فدعوت لهم، وقيل لك «ادعُ على ثقيف» فدعوت لهم، رفضت الانتقام من خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، أو عكرمة، وأبى سفيان أو صفوان، بل أحببتهم وقربتهم وحولتهم من سيوف عليك إلى سيوف معك، ومن قادة للشرك إلى حمَلة للواء الحق. لم تحمل سيف الانتقام أبداً، بل حملت لواء العدل والإنصاف والرحمة والرفق. وقفت ضد الظلم وهتفت محذراً منه فى كل العصور «الظلم ظلمات يوم القيامة». نصرت المظلوم بقولك: «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً». استغاثت بك حمامة فقدت أفراخها فرفرفت مضطربة فقرأت مشاعرها وتفاعلت مع خواطرها الحزينة وأبيت أن تغادر مجلسك حتى تعيد الفرحة لقلبها، فناديت فى أصحابك مستنكراً حرمانها من أولادها: «مَن فجع هذه بأفراخها؟! رُدوا عليها أفراخها»، فردوها سراعاً، لتعلمهم أن أقسى ما فى الحياة أن تُحرم أم من أولادها مهما كانت الحجة والذريعة، إنه درس لكل من يسعى لترمل زوجة أو يتم طفل أو تثكل زوجة، هذه الحمامة الأم شاهدة على رسالة النبى الرحيمة العطوفة. قام السفهاء بسب الرسول 13 عاماً بغير حق، وتطاولوا عليه فما قابل ذلك إلا بالحلم والعفو مستجيباً لأمر ربه «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»، «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ»، «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ». قدم مثالاً نادراً للعفو، وحينما تمكن من قومه لم يعايرهم أو يعذبهم كما عذبوه، أو ينكل بهم، بل قال لهم «اذهبوا فأنتم الطلقاء» بعد أن قدَّر كبراءهم فى لفتة إنسانية نادرة «ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن» لم يترك لأصحابه فرصة تذكر الماضى بأن هذا الرجل هو الذى قاد جيش المشركين ضده فى غزوة أحد، فقتلوا ومثلوا بسبعين من أصحابه. إنه نعم الأخ الكريم وابن الأخ الكريم حقاً، فلم يلوث سيفه بالانتقام، حتى فى لحظة الفتح الأعظم طأطأ رأسه تواضعاً حتى كادت رقبته أن تمس عنق دابته، وهو يقول لأصحابه «اليوم يوم المرحمة» رداً على من قال منهم «اليوم يوم الملحمة». لم يفعل كما يفعل غيره من القادة المنتصرين حينما يتيهون فخراً وعلواً وهم شامخون بين الدماء والأشلاء والحطام والنيران، لا يهمهم من مات أو قُتل، لا يهمهم من تشرَّد أو أُوذِى، لا يهمهم خراب البلاد والعباد. رفض جفوة الأعرابى الذى له عشرة أولاد لم يُقبِّل أحداً منهم، فأطلقها النبى الرحيم صيحة مدوية فى البشرية ضد الغلظة والجفوة وقسوة القلب وجفاف المشاعر «من لا يَرحم لا يُرحم». آه.. يا سيدى يا رسول الله لو رأيت اليوم عشرات الآباء الذين ضيعوا أولادهم وهجروهم بعد تطليق أمهاتهم ولم ينفقوا عليهم وتركوهم لأمهاتهم يكابدون الحياة معهن يبعن فى الشارع أو يغسلن السلالم أو يعملن فى المصانع والمزارع. هذا هتافك يا سيدى فى هؤلاء «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول» ملايين الأطفال يضيعون اليوم نتيجة البخل والقسوة والطلاق. حملت يا سيدى لواء الرفق وشجعت عليه «إذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق»، «ما من أهل بيت يُحرمون الرفق إلا قد حُرموا»، أى حُرموا من الخير كله، أطلقها محذراً أهل القسوة والجفوة بالحرمان مطلقاً لأنهم شقوا على الآخرين فشق الله عليهم. يا سيدى يا رسول.. نحبك كثيراً رغم تقصيرنا فى حقك، وفى حمل رسالتك، وفى التعريف بك، ونعيش متفائلين بحديثك العظيم «إنك مع من أحببت يوم القيامة»، فبضاعتنا مزجاة وحالنا سيئ، لكننا نتوسل إلى الله بحبك وحب صحابتك وحب الرسل جميعاً، ولا نملك سوى هذا الحب، طبت يا سيدى حياً وميتاً.