حظيت مصر دون غيرها من بلاد العالم بتنوع كبير فيما يخص التراث الثقافى للسكان، ما يجعلها نموذجاً لمجمل الثقافات الموجودة بالمنطقة، وتمثل النوبة وسيناء ومرسى مطروح نماذج واضحة لثقافات وتراث أفريقيا والشام والصحراء الشرقية، بخلاف تراث الواحات «سيوة» الذى يمثل عمق التراث الصحراوى الأفريقى.
والتراث الثقافى يتنوع بين ما هو ملموس «المقتنيات المادية» وما تناقلته الأجيال من حكايات وأشعار وموسيقى تخص المجتمع موروثاً من الأجيال السابقة، بقى واستمر حتى منح التميز الثقافى لسكان المنطقة عن غيرها وظل حاضراً حتى إن تغير مكانهم. ولا يقتصر الأمر على لون بعينه من عادات وتقاليد وأزياء وعلوم وآداب وفنون، بل يشمل كل الموروثات عن أجيال سبق وعاشت لتصنع تميزاً ثقافياً عبر الفنون الشعبية والأزياء وأدوات زينة والشعر والغناء والموسيقى والمعتقدات الشعبية والقصص والحكايات والأمثال، وعادات الزواج وألوان الرقص والألعاب وكذلك الأدوات التى استخدمها أصحاب الحرف المختلفة وكذلك الطب الشعبى وطرق التداوى، يضاف إليها القضاء العرفى الذى تطبق أحكامه بصرامة ويحفظ للمجتمع استقراره.
ويرى العالم الأمريكى «هيرسكو فيتس» عالم الفولكلور الشهير (1895-1963) أن التراث مرادف للثقافة، أى أنه جزء مهم من ثقافة الشعوب وليس منفصلاً عنه.
نجح المصريون المقيمون فى صحاريها المختلفة فى خلق طابع متميز ومختلف يخصهم وبه من أنماط التزيين ما يمكن أن نطلق عليه «فن الصحراء»، كما نجح فى استخدامه فى العديد من المنتجات كل بحسب مساحات التلاقى والتماس مع الحضارات المجاورة، وصارت مصر صاحبة التنوع الأوسع بين كل البلدان فى المنطقة بل والمرجعية التى يمكن التعويل عليها فى دراسة تراث الشام والجزيرة العربية وأفريقيا وقبائل الصحراء الغربية، مضافاً لموروثاتها المتفردة والمستمدة من فرعونيتها التى لا يشاركها فيها أحد.
على الرغم من كثرة المشروعات التى حاولت جمع هذا التراث، فإن الكثير منه تعرض لعمليات بيع واسعة وبأثمان زهيدة فى وقت لم نكن ندرك نحن أهميته، وصار معروضاً فى مختلف المتاحف فى كل أنحاء العالم قبل أن ننتبه أو نحاول جمعه وتوثيقه، فى الوقت الذى صدرت فيه عشرات الدراسات والكتب عن تراث المناطق المشابهة، ما أعطى انطباعاً دولياً أنه يخصهم وحدهم دون الإشارة إلى كونه جزءاً هاماً من مخزون الثقافة المصرية والتراث الإنسانى للمجتمع المصرى فى النوبة والبوادى المختلفة.
شهدت العقود الماضية إنشاء متاحف إقليمية مثلت خطوة هامة على طريق جمع ما تبقى من تراث الأمة المصرية بمشاركة مجموعات من الخبراء وأساتذة الفنون والمهتمين بهذا الشأن، وكان لى شرف المشاركة، ولم تكن المهمة باليسيرة، حيث فوجئ الجميع بدخولنا حالة «الندرة» ولم تكن هناك فرصة للانتقاء واندثر الكثير من مفردات التراث فى مختلف المناطق، بخلاف تراجع معلومات كبار السن ممن يعول عليهم فى نقل المعلومات وتوضيح معانى المسميات اللازمة للتوثيق واختفى العديد من مفردات هذا التراث فى مختلف مناطق الجمع والدراسة.
بقيت محاولات الدولة، والجهات المنوط بها الحفاظ على ثقافة وتراث المصريين، محصورة فيما تم إنجازه فى حدود ما احتاجته قاعات العرض، وهو ما لم يكن كافياً على الإطلاق لتحقيق عملية باتت فى غاية الصعوبة، كونها تعمل فى مساحات شاسعة وفى بؤر تحمل كل منها طابعاً مختلفاً يعبر عن طبيعة سكانية وموروثات يختلف كل منها عن الآخر.
بقيت فرصة أظنها الأخيرة، لإطلاق مشروع قومى تتبناه الدولة تحت مسمى «الحفاظ على ثقافة وتراث المصريين» يهتم بعمليات جمع منظمة، وفقاً لخطة تشمل كل تلك المناطق ذات التراث المتفرد، على أن يصاحب ذلك عملية توثيق علمى دقيق، تستهدف إصدار موسوعة حقيقية ترصد كل ما نملكه فى سيناء وسيوة والصحراء الغربية والنوبة ومختلف المناطق التى تشارك فى تتويج مصر مملكة للتراث فى منطقتها.
لن يكون ذلك كافياً إذا لم يصاحب ذلك عملية إحياء للحرف التراثية عن طريق إعادة إنتاج واستنساخ للقطع المتحفية بنفس المستوى والدقة المهنية، وليس كما نرى من منتجات أغرقت الأسواق ولم تحقق المنتظر منها فى الحفاظ على التراث وخلق مشروعات تنموية تستطيع أن تحدث فارقاً لصالح أصحاب المهارات من الحرفيين المصريين الشباب.
كما بات من الأهمية بمكان عملية توظيف الوحدات الزخرفية القديمة فى منتجات يمكن استعمالها فى الحياة اليومية بحيث لا يكون الأمر مقتصراً على التزيين والشكل الجمالى.
ولا تفوتنا أهمية توعية الأجيال القادمة بما تملكه أمّتهم من تراث يميزهم ويضيف لهم، ويؤكد أن لهم الصدارة عبر كونهم حملة ميراث عريق من الحضارة التى بدأها الفراعنة وما تركوه من آثار أبهرت، وما زالت، العالم أجمع وهو ما استمر فى تراث مصر الذى لا يعرف قطاع عريض منهم عنه شيئاً، وقد تكون غالبيتهم، ما يستوجب أن يدرس فى مختلف المستويات الدراسية.
تكتسب عملية الحفاظ على التراث أهميتها من قدرتها على إظهار حضارات الأمم وتاريخها، فى ظل تراجع الشواهد وضياع المفردات وندرتها وصعوبة العثور عليها، وتبقى عملية إبراز الهوية الوطنية والحفاظ على خصوصية المجتمع مرتبطة بتراث الأمة ومدى الحفاظ عليه، بالإضافة إلى دوره فى الحفاظ على قيم المجتمع وإثراء وعى أفراده والارتقاء بذوقه الفنى، وهو ما يؤكد أهمية الحفاظ عليه والحرص على استمراريته.