تحتفل سلطنة عمان الشقيقة هذه الأيام بالعيد الوطنى الخمسين، والذى يصادف مرور خمسين عاماً على تولى السلطان الراحل قابوس بن سعيد مقاليد السلطة فى عمان، وحلَّق بدولته إلى ذُرى عالية فى أقل من نصف القرن، ليرحل ويترك لخلَفه السلطان هيثم بن طارق دولة مختلفة جذرياً عن تلك الدولة التى بدأ فى حكمها منذ خمسين عاماً. تُعد تجربة سلطنة عمان بقيادة السلطان قابوس نموذجاً فريداً يستحق التقدير والثناء. لقد تسلَّم السلطان قابوس السلطة والدولة تخلو من أى مظهر من مظاهر الدولة، فلا بنية أساسية ولا خدمات، وتكفى الإشارة إلى عدم وجود أى مدرسة ثانوية، وليس جامعات، فى السلطنة عندما تولى السلطان قابوس الحكم. ويكمن سر النجاح المذهل لسلطنة عمان وقيادتها فى اتسام السياسات العمانية الداخلية والخارجية بالواقعية والرشادة فى أبهى صورها، بعيداً عن الغوغائية وأوهام الزعامة والخطب الرنانة والتورط فى مغامرات خارجية فاشلة، وهى الآفة التى ابتُليت بها بعض القيادات العربية التى حكمت دولها قبل وأثناء فترة حكم السلطان قابوس سلطنة عمان. ومن ثم نجحت عمان فى أقل من خمسين عاماً فى تحقيق طفرة هائلة على جميع الصُّعُد، بالرغم من أن البداية كانت، دون مبالغة، من الصفر، بينما تبارت قيادات عربية أخرى باقتدار تُحسد عليه فى تبديد الموارد الهائلة التى كانت تحظى بها دولها عندما وصلت إلى السلطة. تسلَّم السلطان قابوس الحكم ودولته تفتقر إلى أى مقوم من مقومات الدولة، وعند وفاته، كانت سلطنة عمان دولة ذات أركان راسخة، وسمعة إقليمية ودولية مرموقة. ووصلت قيادات عربية أخرى إلى السلطة ودولها فى أوضاع تقترب من دول العالم الأول، ثم غادرتها وقد تقهقر ترتيبها إلى مؤخرة دول العالم. نجح السلطان قابوس فى بداية حكمه فى استيعاب مطالب إقليم ظفار فى إطار الدولة العمانية الواحدة، بعد تمرد عسكرى استمر لفترة ليست بالقصيرة، واستنزف كثيراً من الموارد، وحظى بدعم من قوى إقليمية ودولية. وشرعت عمان فى تنفيذ خطة طموحة ومتدرجة فى إنشاء البنية التحتية الضرورية وإتاحة الخدمات الأساسية للمواطنين، اعتماداً على الموارد الذاتية المتاحة. وقد حققت تلك السياسة نجاحاً مذهلاً فى الانتقال بسلطنة عمان خلال سنوات قلائل إلى مراتب متقدمة فى مؤشرات التنمية البشرية، لا سيما فى مجالات التعليم والصحة والكهرباء، وفى البنية الأساسية من الطرق والمطارات والموانئ. وقد لا يعلم الكثيرون أن إنتاج عمان من النفط ليس ضخماً كما فى عدد من الدول العربية الأخرى المنتجة للنفط، لكن الاستخدام الرشيد لموارد الدولة هو الذى مكَّن السلطنة من تحقيق تلك الطفرة الهائلة. وعلى الصعيد الإقليمى والدولى، قدمت عمان مثالاً رائعاً على الاحتفاظ بعلاقات طيبة أو على الأقل طبيعية مع الجميع، وعدم التورط فى الصراعات الإقليمية والدولية، مما أهَّلها للاضطلاع بدور الوسيط فى العديد من الصراعات والأزمات على الصعيدين الإقليمى والدولى. فمن ناحية، حافظت عمان على علاقاتها مع جمهورية مصر العربية، ولم تُقدم مسقط على قطع العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة، كما فعلت معظم العواصم العربية فى نهاية السبعينات وطوال عقد الثمانينات من القرن الماضى. ومن ناحية أخرى، حافظت عمان على علاقاتها مع إيران إبان الحرب العراقية الإيرانية التى استمرت بين عامَى 1980 و1988.
ومن ناحية ثالثة، اضطلعت عمان بدور أساسى فى المفاوضات الأمريكية الإيرانية التى أفضت إلى توقيع الاتفاق النووى بين إيران والقوى الكبرى وفى مقدمتها الولايات المتحدة. ومن ناحية رابعة، حافظت عمان على علاقات طيبة مع أطراف الحرب الأهلية اليمنية، المستمرة منذ عدة سنوات، مما مكَّنها من القيام بدور الوساطة لا سيما فى عمليات تبادل الأسرى والجرحى. ومن ناحية خامسة، أرسلت سلطنة عمان فى شهر أكتوبر الماضى سفيراً لها، وليس قائماً بالأعمال، إلى العاصمة السورية دمشق. ولم يكن مفاجئاً للمراقبين للشأن العمانى أن تنتقل السلطة بسلاسة لافتة إلى السلطان هيثم بن طارق بعد وفاة السلطان قابوس بن سعيد، وليبدأ السلطان الجديد مهامه مستفيداً من إرث سلفه العظيم، ومضيفاً إلى عمان المزيد من سمات التميز فى محيطها الإقليمى المضطرب. قدمت سلطنة عمان طوال نصف القرن المنصرم نموذجاً فريداً لدولة عربية تعتز باليقين بانتمائها الخليجى والعربى، لكن تظل مصلحة الدولة العمانية والمواطن العمانى تحظى بالأولوية الأولى فى جميع القرارات الداخلية والخارجية التى تتخذها القيادة العمانية. ومن ثم، لم تتورط السلطنة فى مغامرات خارجية فاشلة، ولم تدَّعِ بطولات زائفة، وقدمت المثال الأكثر نجاحاً واستقراراً فى المنطقة على سياسة تتسم بالرشادة والعقلانية.