صدمة المشروب وافتراش المطار
كيف نحمل كل هذه المحبة للشعب السودانى ونحن نكاد لا نعرفه، نجهل طباعه البسيطة، ولا نهتم بمعرفة عاداته الجميلة، ولا نسعى للمشاركة فى ثقافته الواسعة الممتدة عبر العصور، فى مزيج خيالى بين العربية والأفريقية والصحراوية، قبل أن تهبط الطائرة مطار الخرطوم الدولى، بدأت المضيفات فى توزيع وجبات الغداء على المسافرين، لكنّ الرجل الجالس بجوارى ذا اللحية البيضاء الصغيرة، رفض أن يفطر، وابتسم للمضيفة، ثم أغمض عينيه ممسكاً بمسبحته الخضراء، ولما وضعت المضيفة الوجبة أمامى، رفضت أنا بدورى وقلت لها إنى صائم، ابتسم الرجل الطيب وقال لى لك أن تفطر ولك ثواب الصيام، فأخذتنى عزة النفس، وقلت لا أفطر حتى ينادى المؤذن لصلاة المغرب، صحيح أننى وبعد دقائق كاد الجوع يفترسنى ويدفعنى للنكوث بكلمتى التى قطعتها، لكن الأوان قد فات على التراجع، كانت الطائرة قديمة، لا شاشات ولا سماعات ولا أى وسيلة تسلية، فقط ما أحمله من قصص رجل المستحيل، التى كنت قد قرأتها عشرات المرات، لدرجة أنى حفظت بعضها عن ظهر قلب، كان أقصى تسلية رؤية السحاب من النافذة الصغيرة.
لم يكن مطار الخرطوم فى هذه الفترة أكثر من فيلا كبيرة، وكان مشهد سير الركاب على مدرج الطائرات نحو المبنى عادياً، وهو ما فعلناه بالضبط، تحت شمس حارقة، أشعرتنى بعطش شديد، ولم يكن معى ما أفطر به حين تأتى لحظة الأذان، فسألت شرطياً عن مكان لبيع المياه، فأشار لى بيده لممر ليس بطويل، ما إن أنهيته حتى وجدت نفسى خارج مبنى المطار، شاهدت كشك سجائر من بعيد يتوسط موقف ميكروباصات أغلبها من النوع الذى يسير فى شارعى فيصل والهرم، كلها مفتحة الأبواب يتدلى منها صبى صغير ينادى على الوجهة، ذهبت للكشك واشتريت بدرهم «إماراتى» زجاجة كبيرة من الماء، وأنا فى طريق العودة للمطار سمعت تكبيرات الأذان، ففتحت الزجاجة بسرعة وتقريباً أنهيت نصفها، ثم تذكرت عائلتى التى تكاد تموت عطشاً هى الأخرى، فعدت واشتريت زجاجتى ماء، لكن هذه المرة بنصف جنيه «مصرى».
دخلت المطار وعدت لعائلتى ولم يوقفنى أحد، فقد كان الجميع بمن فيهم الأمن والموظفون والعمال والركاب يفترش أى شىء، الأرض، الطاولات، السلالم، الحقائب، ويأكل عليها طعام الإفطار، كان أكبر إفطار جماعى أراه فى التاريخ، فلن يذهب أبداً ذلك المشهد عن عينى عندما افترش الناس مدرج الطائرة وهم يُفطرون.
كان القاسم المشترك بين الموظفين مشروباً، يبدو أن عليه إجماعاً، يشبه الخروب، الكل يشرب منه بقدر ما يشتهى، الأمر الذى سال له لعابى، فتقدمت لشرطى كان يفطر على الأرض بجوارى فسألته: هو دا خروب ولاّ تمر هندى؟ فانفجر من الضحك، وسكب لى بعضاً منه ويبدو أن ضحكاته جلبت زملاءه حولنا، وهو ما أشعرنى بالعجب، لكن ما هى إلا ثوانٍ حتى عرفت السبب.
شربت باندفاع، فقد كان مذاقه حلواً للغاية، فتوقفت لآخذ نفسى وقلت للشرطى: ده حلو قو(...) لم أكمل الجملة حتى قلت: ده مر قوى، وكأنها اللحظة التى ينتظرها الجميع لينفجروا مرة أخرى من الضحك، فقد كان مشهداً مألوفاً لدى الإخوة السودانيين، رؤية صدمة من يشرب هذا المشروب لأول مرة، تجمع الشرطة حولى جعل رئيس الوردية غاضباً، فنهر الضباط، فتفرقوا بسرعة، ووجدت الرجل ذا الملامح الصارمة العابسة أمامى، ودون أن أشعر، أنهيت المشروب دفعة واحدة فتغيرت ملامح وجهى مرة أخرى من سعادة بالطعم الحلو لعبوس بسبب المرارة الشديدة، تكرر المشهد، ضحك رئيس الوردية بشدة لدرجة أنه نزل على ركبتيه، ثم أحس بأزمة تنفس، ثم سقط على الأرض ممسكاً صدره بيده، لكنّ الرجل ذا اللحية البيضاء الصغيرة، أمسك برأس رئيس الوردية، وأخرج برشامة منحها إياه، بعد أن أخذ زجاجة الماء من يدى وسكبها على رأسه ووجهه، مرت دقائق وأصبح الضابط الكبير بصحة جيدة، فنادى علىّ واعتذر لى، وأخبرنى باسم المشروب، الذى يطلق عليه أهل الخرطوم «حلو مر»، فى حين أن اسمه فى بقية ولايات السودان، الأبرى وهو صناعة اجتماعية غير عادية لا تعده ست البيت السودانية بمفردها، بل إنها تجتمع مع نحو عشرين سيدة من الجيران ليصنعنه معاً فى خمس ساعات تقريباً.
هذا الرجل الذى أرعبنى فى بداية وصولى للسودان، كان هو منقذ عائلتى من مصير مجهول فى شوارع عاصمة الطيبة والكرم والجدعنة والخلق الرفيع.. الخرطوم.