القاهرة وأبو ظبي.. نموذج لتلاقي الرؤى الاستراتيجية في الشرق الأوسط
الرئيس عبدالفتاح السيسي و الشيخ محمد بن زايد آل نهيان
لا يخفى على المتابع لتطورات منطقة الشرق الأوسط خلال العقد المنصرم، ملاحظة التقارب المتزايد في الرؤى بين القاهرة وأبوظبي، حيال القضايا الأساسية على الساحة العربية والإقليمية، وهو تقارب تزايد بشكل ملحوظ منذ العام 2013، عبر تشاور واجتماع مستمر بين المستويات القيادية في البلدين، وتعاون متصاعد على الأصعدة كافة، مما أسهم في تشكيل رؤية استراتيجية أساسية، تتلاقى فيها توجهات البلدين، التي يسعيان من خلالها إلى حلحلة الأزمات التي تعاني منها المنطقة، وتؤثر سلبا على مسارات التنمية والاستقرار الأمني في معظم دول المنطقة، خاصة الدول العربية.
التواصل المستمر بين المستويات القيادية العليا بين البلدين، تكلله الزيارة التي بدأها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبو ظبي، ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية إلى القاهرة، الأربعاء 16 ديسمبر، وهي الزيارة الثانية هذا العام، إذ سبق له زيارة مصر منتصف يناير الماضي، للمشاركة في افتتاح قاعدة برنيس العسكرية بمنطقة البحر الأحمر. بشكل عام، ويعد اللقاء هو الرابع والعشرين بين قيادات البلدين، منذ زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى أبوظبي في مارس 2014، بحسب تقرير للمرصد المصري.
تطور العلاقات بين الجانبين عقب ثورة 30 يونيو، كان نابعاً بشكل رئيسي من رؤية أبو ظبي الصحيحة للتطورات على الساحة المصرية، إذ رأت في هذه الثورة تصحيحا لوضع خاطئ كاد يودي باستقرار الدول العربية، ولهذا كان الموقف الإماراتي واضحا بتأييد الثورة، والمسارعة بنسج علاقات وطيدة من الصداقة والتعاون مع القيادة التي جاءت نتيجة لهذه الثورة.
الجوانب الاقتصادية كانت وسيلة أساسية من وسائل دعم أبو ظبي للقاهرة بعد السنوات العصيبة التي مرت بها منذ عام 2011، فتعددت مبادرات الاستثمار الإماراتية في القاهرة، وتزايد حجمها بشكل ملحوظ، لتصبح أبوظبي أواخر عام 2018، الدولة الأولى على المستوى العالمي، في حجم الاستثمارات على الأراضي المصرية، بما يقرب من 6 مليارات دولار، بجانب تبوأ أبو ظبي المركز الثالث ضمن قائمة أكبر الأسواق التصديرية الخارجية للمنتجات المصرية.
وعلى المستوى السياسي، كان التقارب بين الجانبين أكبر وأكثر عمقا وتأثيرا، واتضح بشكل كبير من خلال البيان المشترك الذي أصدره البلدين في نوفمبر 2019، بشأن عدد من القضايا الإقليمية، وقد رسم هذا البيان خريطة واضحة لتوجهات البلدين فيما يتعلق بأزمات إقليمية مهمة، واتضح من خلاله أنّ مواقفهما من هذه الأزمات شبه متطابقة، وتدفع في اتجاهات التهدئة والتسويات السياسية، ولم الشمل العربي، ونبذ التدخلات الأجنبية والأنشطة الإرهابية.
كانت الأزمة الليبية على رأس الملفات التي اهتم الجانبين بها خلال السنتين الماضيتين، نظرا لما يمثله من أهمية على صعيد استقرار الشمال الأفريقي من جهة، ومن جهة أخرى لتصاعد التدخلات الأجنبية في هذا الملف، وتزايد أنشطة الميليشيات والجماعات الإرهابية بشكل غير مسبوق.
وخلال بيان نوفمبر 2019، أعرب البلدين عن خطورة استمرار توغل الميليشيات في مفاصل الدولة الليبية، وسيطرتها على مقدراتها الاقتصادية وقرارها السياسي، وضرورة إطلاق مسار سياسي لإنهاء الأزمة، برعاية الأمم المتحدة.
وظهر التلاقي في رؤية الجانبين بشأن الملف بشكل كبير، من خلال إصدار الخارجية الإماراتية بيانا في السابع من يونيو الماضي، أعلنت فيه تأييدها لإعلان القاهرة الذي أطلقته مصر كمبادرة لوقف إطلاق النار في ليبيا، ودعت الأطراف الليبية إلى الاستجابة لهذا الإعلان، تبع ذلك بيان آخر في 20 من نفس الشهر، أعلنت فيه الإمارات عن وقوفها إلى جانب مصر في التدابير التي تتخذها لحماية أمنها من التداعيات المقلقة في ليبيا، وأكدت مرة أخرى تأييدها لإعلان القاهرة.
العمل المشترك بين الدولتين، أدى إلى قبول الجيش الوطني الليبي وحكومة الوفاق في يونيو الماضي، استئناف مباحثات تثبيت وقف إطلاق النار، وهي المباحثات التي تلتها عدة اجتماعات حول المسار السياسي الليبي في المغرب والقاهرة وجنيف، وأصدر البلدين في يونيو الماضي بيانا مشتركا، يرحبان فيه باجتماع الطرفين لتثبيت وقف إطلاق النار، ويدعوان للالتزام بالعملية السياسية تحت إشراف الأمم المتحدة، وعبر مسار مؤتمر برلين، كحل وحيد لتحقيق السلام في ليبيا، والحفاظ على وحدة وسلامة أراضيها.
بواعث الموقف المشترك للبلدين في ليبيا، تنبع من الثوابت المتعلقة بالحفاظ على كيان الدولة الوطنية وقواتها المسلحة، وإنهاء أي محاولات لشرعنة السلاح غير الشرعي وفرضه كأداة للحصول على مكاسب سياسية، وتطويق وإنهاء أي محاولات من جانب دول خارجية مثل تركيا، لإيجاد موطئ قدم دائم لها على الأراضي الليبية، عبر تواجد مسلح غير شرعي بأشكال متعددة.
وأكد البلدين أنّ الهدف الأساسي هو إنهاء التدخلات الأجنبية في الملف الليبي، وإيصال السفينة الليبية إلى بر الأمان، حقنا لدماء الأبرياء، ودون أي محاولة لإقصاء أي مكون من مكونات الشعب الليبي.
الملف السوري كان أيضا من روافد التلاقي في التوجهات السياسية لكل البلدين خلال الفترة الماضية، فأبوظبي التي أعادت تفعيل علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة السورية أواخر 2018، تتلاقى مع رؤية القاهرة بشأن الملف السوري، وهي رؤية تحدث عنها بشكل صريح الرئيس المصري خلال حوار تلفزيوني عام 2016، مفادها أنّ المحدد الأساسي لأي توجهات للحل في سوريا يجب أن تكون سلمية، ومبنية على الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها، وإطلاق تسوية سلمية سياسية شاملة، بمعزل عن التدخلات الخارجية، وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 2254، وهذا هو التوجه الذي أكد عليه في السادس والعشرين من نوفمبر الماضي، البيان المشترك الذي تم إصداره عقب اجتماع كبار المسئولين في مصر والإمارات والمملكة العربية السعودية والأردن، لبحث الموقف الحالي للملف السوري.
كما أنّ البيان المشترك بين مصر والإمارات، الصدار في نوفمبر 2019، أكد القرار العربي برفض واستنكار الاعتداءات التركية على شمال شرقي سوريا، بوصفه خرقا واضحا لمبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. يضاف إلى ذلك محاولة مصر والإمارات تطويق الدور الإيراني في الملف السوري، عن طريق محاولة تفعيل الدور العربي، وإنتاج مبادرة وطنية لإحلال السلام في سوريا، وكذا تكثيف الدور العربي فيما يتعلق بالعلاقة بين أكراد شرقي الفرات والدولة المركزية في دمشق، وهو توجه بدأ يؤتي ثماره مؤخراً.
التدخلات التركية في عدة مناطق بالشرق الأوسط، ومنها شرق المتوسط وليبيا وسوريا والعراق، كانت محط اهتمام مصر والإمارات، نتيجة للتصاعد الواضح في هذه التدخلات، وما تمثله من انتهاك فاضح لسيادة الدول العربية، والأدوار السلبية التي تلعبها أنقرة في دعم الجماعات الإرهابية والميليشيات خاصة في سوريا وليبيا، وتحويلها الموالين لها من السوريين إلى قوافل من المرتزقة الذين تستخدمهم من أجل تحقيق أهدافها التخريبية في سوريا وليبيا وناجورنو قره باغ ومناطق أخرى، ناهيك عن محاولاتها فرض أمر واقع في شرق المتوسط، وانتهاك المناطق الاقتصادية الخالصة لدول صديقة للإمارات ومصر، مثل اليونان وقبرص، لهذا جاء البيان المشترك في مايو الماضي، بين مصر والإمارات وقبرص واليونان وفرنسا، لإدانة التحركات التركية غير القانونية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، وهو ما يشكل انتهاكا صريحا للقانون الدولي وفقا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، كما أكد البيان على موقف الدول الخمسة، بشأن إدانة التدخل العسكري التركي في ليبيا، وضرورة فرض الاحترام الكامل لحظر السلاح الأممي، ووقف تدفق المقاتلين الأجانب من سوريا إلى ليبيا.
لم يقتصر الموقف المشترك بين القاهرة وأبو ظبي على العمل لمواجهة التدخلات التركية فقط، بل أمتد أيضا ليشمل التدخلات الإيرانية في الشئون العربية، خاصة الملف اليمني، فقد أدانت مصر بشكل واضح العمليات التي تنفذها جماعة الحوثي بين الفينة والأخرى، لاستهداف الداخل السعودي بالصواريخ والطائرات المسيرة، وكذا العمليات التي تهدد الملاحة المدنية في البحر الأحمر، عبر بث الألغام البحرية، وهجمات الزوارق الإنتحارية، وهذا موقف مطابق للموقف الإماراتي الذي يدعو بشكل دائم إلى أيقاف التدخلات الإيرانية في الملف اليمني، وتزويدها جماعة الحوثي بالأسلحة النوعية التي باتت تهدد حركة التجارة العالمية وأمن المملكة العربية السعودية بشكل جدي.
في هذا الإطار، كان لليمن نصيب في البيان المشترك الذي أصدره كلا البلدين في نوفمبر الماضي، وأكدا فيه على سيادة الإمارات العربية المتحدة على جزرها الثلاث؛ طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، المحتلة من جانب إيران، كما شدد البيان على أهمية تولي المجتمع الدولي بمسؤولياته في ضمان حرية الملاحة البحرية وأمنها وسلامتها، وكذلك حرية الملاحة في المضائق الدولية، وحماية أمن منشآت الطاقة في منطقة الخليج العربي وخليج عمان والبحر الأحمر، ورحب البيان كذلك باتفاق الرياض بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي، والذي يتوافق مع رؤية كلا البلدين للحل السلمي للأزمة اليمنية.
من أهم الملفات التي تجمع بين مصر والإمارات العربية المتحدة، هو مكافحة الإرهاب، إذ تتطابق توجهات البلدين في هذا الملف بشكل كبير، خاصة فيما يتعلق بخطورة جماعات الإسلام السياسي، التي تتخذ من الدين ستارا لتحقيق أجندات سياسية لا تحمل في مجملها أي توجهات إيجابية، وتتوافق مع محاولات خارجية لإدخال الدول العربية بشكل دائم في دوامات من الصراع وعدم الاستقرار.
أبو ظبي التي دعمت منذ البداية ثورة مصر ضد جماعة الإخوان المسلمين عام 2013، قامت منذ عدة أسابيع، وتحديدا في شهر نوفمبر الماضي، بإعادة التأكيد على حظرها لجماعة الإخوان، وذلك عبر بيان أصدره مجلس الإمارات للإفتاء، وهنا لابد من الإشارة إلى أنّ البيان المشترك بين مصر والإمارات في نوفمبر 2019، أكد دور الأزهر الشريف في مصر، بوصفه جهة أساسية ورئيسية في مكافحة الفكر المتطرف، ونشر الاعتدال والوسطية.
التعاون بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب ينسحب أيضا على التعاون الأمني والاستخباراتي والعسكري، إذ تشارك الجانبين منذ عام 2015، سلسلة من الاجتماعات الأمنية والمناورات العسكرية، بهدف رفع جاهزيتهما القتالية، وإدامة تبادل المعلومات والخبرات بينهما، وآخر هذه المناورات كانت مناورات (سيف العرب) في نوفمبر الماضي.
ملف التدخلات القطرية في الشأن العربي، وبشكل خاص الشأن الخليجي والمصري، كان من أهم الملفات التي جمعت الدولتين، إذ تشاركا تقديرهما للجهود الكويتية والعمانية المستمرة لحل هذا الملف، إلا أنّ موقفهما ظل ثابتا خلال السنوات الماضية، بشأن طريقة التعامل مع نهج الدوحة التخريبي في العديد من الملفات الإقليمية، من دعمها لجماعة الإخوان والتنظيمات الإرهابية المسلحة في عدة دول، وتناولها لبعض الشؤون العربية بطريقة غير مهنية أو موضوعية عبر وسائل إعلامها، التي تحولت إلى أبواق لمهاجمة القيادات والحكومات العربية، وملخص هذا الموقف هو أنّه على قطر أن تتوقف بشكل تام عن هذا النهج، إذا ما أرادت تحقيق مصالحة (حقيقية) و(دائمة) مع الرباعي العربي.