يُحلّي أفواههم ويغذي عقولهم، مُربي أجيال كما يقول الكتاب، شارك الأجداد جلسات السمر ودرّس للجيل الثاني من الأباء حتى استقبل الأحفاد بقطع الحلوى في جيوبه مُحببًّا إياهم في المدرسة، بشرته السمراء التي اكتسبت لونها من حرارة «بلاد النوبة» وملامح وجه بشوش أسرت قلوب أجيال ثلاثة عاصرهم المعلم المتفرغ زوّدهم بالعلم واستسقوا من سيرته الحسنة، وشاركوه خيالاتهم صغارًا وطموحاتهم وأفراحهم شبابًا، الرجل الستيني الذي ملأ الشيب رأسه، بات معلمًا بدرجة أب حنون، وصديق وفي لأطفال في عمر أحفاده يتجسد فيه قول الرسول «أقوامٌ أفئدتهم كأفئدة الطير».
في واحدٍ من بيوت قرية «أدندان» النوبية نشأ «حلمي مراد» الذي اختار له والده اسمه تيمنًا بوزير التربية والتعليم في عهد الراحل جمال عبدالناصر، حيث كان يعمل إداريًا في مكتبه بـ محافظة أسوان، عهده الجميع جيرانًا وأصدقاءً بوجهه البشوش ولين المعاملة، أفنى شبابه في مهنة التدريس لمادة البيولوجي للمرحلة الثانوية منذ تخرجه وحصوله على بكالوريوس علوم تربية عام 1983، متنقلًا بين المدارس الحكومية والخاصة بمحافظة أسوان، أتقن عمله فأحبه طلابه وامتدت أواصر علاقته بهم حتى بعد تخرجهم وزواجهم وإنجابهم: «بقالي 40 سنة بشتغل مدرس بيولوجي عربي وإنجليزي ثانوي وعلاقتي مستمرة بكتير من طلابي لحد دلوقتي»، يروي المعلم البالغ من العمر 61 عاما علاقته بطلابه في بداية حديثه لـ«الوطن».
المعلم النوبي يعمل معلم بيولوجي منذ 40 عاما بمحافظة أسوان
اختلاطه الكثير وتعامله مع مختلف الجنسيات خلال عمله لفترة في السياحة بجانب عمله الأصلي كمعلم، ترك في روحه أثرًا جعل منه رجًلا صبورًا متطورًا محبًا للأطفال، ومواكبًا لمتطلباتهم العمرية: «تلاميذي في الثانوي دلوقتي بقوا رجالة وأبهات ولسه بقابل بعضهم وبسافر معاهم رحلات العمرة وولادهم الأطفال عارفيني»، حيث يعمل مشرفًا لرحلات العمرة والحج ويباشر الأفواج في الأراضي المقدسة.
قبل سنوات قليلة وبعد أن تضرر القطاع السياحي وندر قاصدي الأماكن المقدسة لغلاء أسعار رحلات الحج والعمرة، عاد «حلمي» إلى مزاولة مهنة التدريس مرة آخرى في إحدى المدارس الخاصة رغم بلوغه سن المعاش، ليصدح صوته بشرح مادة البيولوجي لطلاب المرحلة الثانوية من جديد كما عهدته فصول أسوان من قبل، ينهل من علمه الطلاب، ابتسامته التي لا تغيب تساعددهم على فهم ما استصعب عليهم من معلومات يتضمنها المنهج، إلى جانب توليه منصب مدير العلاقات العامة بالمدرسة نفسها.
حلمي: اتعودت أمشي في جيبي بونبوني وشيكولاتة للأطفال
بذلة رسمية أنيقة وحذاء يلمع من شدة نظافته، ورائحة عطر تفوح من طرقات المدرسة، التي تضم مراحل تعليمية مختلفة من الابتدائي حتى الثانوي، كلما مر بإحداهما، تلك الطلة المهيبة التي اعتاد الجميع رؤيته عليها تُخفي وراءها قلب رجل عجوز بمشاعر طفل بريء، جيبه لا يخلو يومًا من قطع الحلوى، يستقبل بها طلاب المرحلة الابتدائية، كلما دخل من باب المدرسة وقبل أن يصل إلى منتصف الفناء يلتف حوله الأطفال يتسابقون أيهم يصل إليه أولا ليفوز بقبلة وحضن يضاهي حضن أجدادهم وأبائهم، ينصرفون من حوله كأنهم طيور بأجنحة تصل إلى السماء، بعد أن امتلأت بطونهم الصغيرة بما تشتهيه، إلى حين يتجدد موعد لقائهم به في صباح اليوم التالي.
حلمي: اكتشفت إني كنت بدرس لأهالي بعض التلاميذ عندي وأجدادهم أصدقائي
«اتعودت أمشي في جيبي بونبوني وشيكولاتة للأطفال وبيفرحوا بالحركة دي جدا»، تلك العادة التي حجزت للمعلم الستيني مكانا خاصا في قلوب الأطفال في المدرسة، كانت سببا قاده إلى اكتشاف هوية أبائهم وأجدادهم، «اكتشفت إني كنت بدرس لأبهات بعض التلاميذ دي في ثانوي وأجدادهم كمان أصدقائي، في أوقات السهر والسفر ورحلات العمرة»، لقاء حميمي جمعه بأولياء أمورهم بعد سنوات قاده إلى رحلة عبر الزمن عمرها 40 عاما، فعاد ينبش في الأوراق المتناثرة داخل أدراجه وبين أرفف خزانته الخاصة بحثا عن صور جمعته بطلابه على مدار حياته.
صور بهت لونها تجمع الرجل النوبي بطلابه في المرحلة الثانوية وأصدقاء السفر ولحظات المرح، جلس الرجل الستيني يقارنها بصور تجمعه بأطفالهم وأحفادهم وقد ارتسمت على وجهه ملامح الحنين إلى سنوات العمر الجميل، «في صورة منهم من 25 سنة، كل إللى فى الصورة اتجوزوا وخلفوا وبعضهم أولادهم عندي دلوقتي في المدرسة، أول ما شوفتها افتكرت كل ذكريات شبابي معاهم».
«محمد عبد القادر» أحد تلامذة المعلم الستيني في مرحلة الثانوية العامة، شاءت الصدفة أن يصبح ابنه وابنته من طلاب المرحلة الابتدائية في المدرسة الخاصة التي يعمل بها الآن، «هو دلوقتى شغال في السعودية، وكل ما أسافر مشرف عمرة لازم يستقبلني هناك».
تعليقات الفيسبوك