تُعد مسيرة الإعلام الإماراتى، التى لم تُكمل خمسة عقود من الزمن بعد، عنواناً معبّراً عن مجمل سجل الأداء الوطنى لتلك الدولة الاتحادية الفتية من أربع زوايا؛ أولاها تتعلق بانطلاق الممارسة الإعلامية الإماراتية من رؤية طموحة وواضحة ومكتملة، وثانيتها تتصل بالتزام هذه المسيرة نهجاً مؤسسياً على الدوام، وثالثتها تختص بتوفير درجة عالية من الاتساق والمواءمة ما بين الأداء الإعلامى من جهة وثوابت الدولة وركائزها المعنوية من جهة أخرى، أما الزاوية الرابعة فتركز على الدرجة العالية من الاحترافية، التى جعلت من المنتج الإعلامى الإماراتى منتجاً قادراً على المنافسة وتحقيق الاختراق.
يعتقد البعض أن توفير عدد من المهنيين المميزين وتزويدهم بموارد كافية يمكن أن يصنع إعلاماً جيداً أو يخلق صورة ذهنية براقة، وهو أمر يغفل حقيقة مهمة وجوهرية تتعلق بالتخطيط والالتزام والنهج المؤسسى، إذ لا تتطور المنظومات الإعلامية من دون مؤسسات فاعلة، يتم تأسيسها على نحو جيد، من أجل إنجاز أهداف محددة، وقابلة للاستدامة.
لذلك، لم يكن غريباً أن يتم اختيار دبى عاصمة للإعلام العربى فى 2020؛ إذ تعد دبى عاصمة الأمر الواقع للإعلام العربى بطبيعة الحال، بعدما استطاعت أن تبرهن على قدرتها على قراءة الواقع الإعلامى العربى والنفاذ عبره، والتأثير فيه، على النحو الذى يخدم قضايا المواطنين العرب، ويعالج انشغالاتهم.
وبموازاة هذا الاختيار الذى صادف الحقيقة وعبّر عنها بجلاء، احتفلت دبى فى مطلع العام الحالى بمرور عشرين عاماً على إنشاء «نادى دبى للصحافة»، وهو النادى الذى أرسى لبنة مؤسسية فعالة فى طريق خدمة الإعلام العربى. والواقع أنه يبرز إدراكاً كبيراً فى الإمارات عموماً، ودبى خصوصاً، لأدوار المؤسسات فى ترسيخ صناعة الإعلام الجادة والمسئولة والناجحة، وإمدادها بفرص البقاء والاستدامة والنمو والقدرة على تحقيق الأهداف الوطنية.
فقد أطلق «نادى دبى للصحافة» آليتى عمل إقليميتين فاعلتين؛ أولاهما تمثلت فى «منتدى الإعلام العربى»، الذى يُعقد سنوياً بمشاركة آلاف الخبراء والأكاديميين والعاملين فى صناعة الإعلام فى المنطقة العربية والعالم، ويمثل أفضل منتدى عربى جامع للنقاش والبحث وتداول الأفكار المتعلقة بالإعلام، وثانيتهما تمثلت فى «جائزة الصحافة العربية»، التى انطلقت قوية، وراحت تتطور باطراد، ليفوق عدد المشاركات بها الخمسة آلاف مشاركة سنوياً، وتتحول إلى أفضل آلية لتحفيز الوسط الإعلامى العربى على إنتاج المواد الإعلامية بشكل مهنى واحترافى.
وقبل أيام اختتم نادى دبى للصحافة فعاليات دورته الـ19، التى عُقدت افتراضياً تجاوباً مع التحديات التى يفرضها فيروس «كورونا» على عالمنا، وهى الدورة التى شهدت حضوراً لافتاً تجاوز العشرة آلاف مشارك عبر منصات النادى التفاعلية التى تم تجهيزها لاستضافة هذا الحدث.
وحفل المنتدى فى تلك الدورة بمشاركة حيوية لافتة، وكان من أبرز المشاركين من الخبراء العالميين ميريل براون، المؤسس والرئيس التنفيذى لشركة «نيوز بروجيكت» الأمريكية المتخصصة فى دعم رواد الأعمال والمستثمرين الجدد فى مجال الأخبار، حيث سعى إلى تقديم رؤيته حول مستقبل صناعة الأخبار فى ضوء التجربة الأمريكية خلال عام 2020، وفى ظل تداعيات أزمة «كوفيد-19» العالمية.
وقد بدأ براون حديثه بتأكيد أن عام 2020 كان بلا شك عاماً مضطرباً وحافلاً بالتحديات وصعباً بصفة خاصة بالنسبة للإعلام؛ إذ «تسببت الظروف التى شهدها العالم فى هذه السنة فى إغلاق الكثير من الصحف حول العالم، فى الوقت الذى واجه فيه الإعلام الأمريكى المحلى ضغوطاً اقتصادية وتحريرية هائلة».
وتطرق الخبير الإعلامى الذى تقلد سابقاً منصب مدير كلية الإعلام والاتصال الجماهيرى فى جامعة مونتكلير الأمريكية، إلى أن الاستهلاك الإعلامى العالمى «سيشهد تحولاً جذرياً فى أنماطه، حيث سيطرأ تقلص واضح فى أعداد وسائل الإعلام التقليدية، وستحد عمليات الدمج التى سيشهدها العالم خلال فترة ما بعد (كوفيد-19) من فرص الأصوات الإعلامية التقليدية، فيما ستكون الأزمة سبباً فى بزوغ نجم وسائل إعلامية جديدة، لاسيما من خلال المنصات الرقمية التى تتناول أخبار وتطورات المدن والمجتمعات، إلا أن الفترة التى ستفصل بين اختفاء وسائل الإعلام التقليدية واستبدالها بالمنصات الرقمية الجديدة ستجعل المتلقى فى حالة أشبه بالاعتماد على الذات فى الإلمام بالمتغيرات المحيطة به والتحقق من الأخبار».
ولفت الخبير الأمريكى أيضاًً إلى الأهمية المتصاعدة للعديد من المنصات الرقمية مثل، «أبل» و«أمازون» و«نتفليكس»، والتى رأى أنها ستشكل جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للمجتمعات الإنسانية، خاصة فى الفترة التى سيلتزم فيها الناس بالبقاء طويلاً فى منازلهم وسيكون من الصعب فيها الاعتماد كلياً على مصادر الأخبار المحلية لتكوين آراء واضحة حول التطورات العالمية المحيطة.
وعن ظاهرة الأخبار الزائفة وشيوعها وتأثيرها المتصاعد فى المجال الاتصالى، يقر براون بأنه لم يتوقّع هذا القدر الكبير من المعلومات غير الدقيقة التى حملتها مؤسسات إعلامية عالمية كبرى أو شاعت عبر منصات «التواصل الاجتماعى»، وأثرها فى «خلق موقف لم تنجح الإدارة الأمريكية فى التعامل معه بصورة تمتاز بالكفاءة، لاسيما مع إخفاقها فى مواجهة الفيروس والحد من انتشاره، مما أدى إلى وفاة نحو 300 ألف شخص هناك، فى ظل تطبيق بروتوكولات طبية وصحية هزيلة، مُحمِّلاً الإعلام الأمريكى جانباً كبيراً من المسئولية تجاه هذا التردى فى التعامل مع الأزمة، بتغاضيه عن إخفاقات الإدارة الأمريكية فى هذا الصدد وغيرها من التحديات على مدار السنوات الأربع الماضية».
تحدث فى هذا المنتدى العديد من المسئولين والقادة والخبراء، كما أُفردت مساحة مناسبة لنقل تجارب مهنية جديدة تحاول أن تواكب المستجدات التى فرضها «كوفيد- 19» على العالم، والتى كان منها بطبيعة الحال أن هذا المنتدى السنوى لم يتمكن من الالتئام إلا عبر قنوات التفاعل الافتراضية.
وتجدر أيضاًً الإشارة فى هذا الصدد إلى أن جائزة الصحافة العربية التى تعد إحدى أهم الجوائز الصحفية العربية واصلت عملها كأهم محفز للأداء الصحفى المهنى فى المنطقة.
يستحق منتدى الإعلام العربى الإشادة بطبيعة الحال، ليس لأنه يواظب على لعب دوره التنموى فى المجال الإعلامى العربى فقط، ولكن أيضاًً لأنه وجد طريقه للاستمرار والتأثير فى ظل هذه الظروف الاستثنائية التى يعيشها العالم.