يعرف الأكاديمى الأمريكى «جوزيف. س. ناى» القوة الناعمة بأنها القدرة على صياغة خيارات الآخرين، والحصول على ما تريد عبر الجاذبية أو السحر (Charm or Attractiveness)، بدلاً من «القهر أو الإكراه»، إلا أن المصطلح ما لبث أن انفصل عن مؤلفه واحتل مساحات كبيرة من الجدل الأكاديمى والفكرى، وظهرت محاولات كثيرة لتحليله وقياسه، وظهرت تقارير ترتب الدول على مقياس للقوة الناعمة يضع معايير متعدّدة لقياس تلك القوة لكل دولة، هذه المعايير تتجاوز الفن والثقافة إلى عناصر أخرى أكثر شمولاً وأهمية.
وأدت هذه المحاولات إلى تغيير كبير فى المفهوم عن صياغته الأولى التى ظهرت على يد «ناى»، ومن أهم المحاولات لقياس هذا المفهوم وضبطه، وفقاً لمعايير محدّدة قابلة للقياس، هو مؤشر «القوة الناعمة»، وهو مؤشر سنوى طوّرته فى عام 2015 مؤسسة بحثية أمريكية مهمة، وهى مركز الدبلوماسية العامة (CPD)، التابع لجامعة جنوب كاليفورنيا، بالتعاون مع شركة «بورتلاند» البريطانية للعلاقات العامة والاستثناءات، لقياس قدرة دول مختلفة على التأثير فى البلدان الأخرى عن طريق قيمها الاجتماعية، بدلاً من الأموال أو غيرها، وصولاً إلى قائمة بأعلى 30 دولة امتلاكاً للقوة الناعمة.
وتقوم الجهات المطورة للمشروع بوضع القائمة، انطلاقاً من مؤشرات «موضوعية» Objective data وتسهم بنسبة 70% فى عملية تقييم القوة الناعمة للدولة، ومؤشرات «غير موضوعية» Non-Objective data، وتسهم بنسبة 30% فى تحديد ترتيب الدولة على مؤشر القوة الناعمة، ومن المؤشرات الموضوعية، يعتمد التقييم على عدة مؤشرات، أولها صيغة إدارة الدولة ومدى جودة المؤسسات السياسية فيها، وثانيها مدى جاذبية النظام الاقتصادى للدولة واجتذابه مشاريع المستثمرين حول العالم، وثالثها مدى الانتشار الثقافى للدولة عالميّاً، وهنا يدخل عدد السائحين فى كل دولة ونسبة إنفاقهم، وعدد الأفلام السينمائية التى تنتجها الدولة وتشارك فى المهرجانات الكبرى، وعدد المراسلين الصحفيين الأجانب فى كل دولة، وعدد مواقع التراث العالمى فيها، ومدى قوة لغة كل دولة، وعدد الميداليات الأولمبية التى حصلت عليها فى آخر دورة أولمبية، وموقع المنتخب الوطنى لكرة القدم فى تصنيف الفيفا، وحجم السوق الموسيقية فى الدولة، ومدى سمعة وكفاءة شركة الطيران الوطنية، وعدد المطاعم فى الدولة الحاصلة على «نجمة ميتشلن».
ورابعها مدى سمعة وشهرة نظام التعليم العالى الخاص بالدولة خارجياً، وخامسها مدى مشاركة الدولة فى حل القضايا العالمية وقوة العلاقات الدبلوماسية للدولة، ويقاس هذا المؤشر بمعايير من قبيل عدد البعثات الدبلوماسية للدولة فى الخارج، وعدد البعثات الدبلوماسية على أراضى الدولة، وعدد بعثات الدولة فى المنظمات الدولية، وحجم إسهام الدولة فى المساعدات الدولية، وعدد ما تستقبله الدولة من طلبات اللجوء، وعدد البعثات الثقافية للدولة فى الخارج، وعدد الدول التى يستطيع مواطنو الدولة زيارتها دون حاجة للحصول على تأشيرة دخول، وآخرها مدى التواصل الرقمى والتكنولوجى للدولة مع العالم، ويشمل هذا المؤشر عدد المتابعين خارج الدولة لحساب رئيس الدولة ووزارة الخارجية على موقع «فيس بوك»، وعدد مستخدمى الإنترنت داخل الدولة، وسرعة الإنترنت وعدد الخوادم، وعدد الخدمات الحكومية المقدمة إلكترونياً، وعدد مستخدمى الهواتف الجوالة.
أما المؤشر غير الموضوعى، فيتم تحديده انطلاقاً من نتائج استطلاعات آراء فى 25 دولة. ومن الأسئلة التى طُرحت على المشمولين بالاستطلاع: تقييم المطبخ القومى لدولة ما، والسلع التى تنتجها الدولة، بما فى ذلك السلع التكنولوجية والكماليات، ونظافة شوارع المدن، والترحيب الذى يتلقاه الزوار من قِبل السكان، ومدى الإسهام فى الثقافة العالمية، ومدى جاذبية الدولة كمكان للعمل أو الزيارة أو الدراسة. وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال المقبل حول موقع مصر على خريطة القوى الناعمة وفقاً لهذه المؤشرات.