لا يمكن الحديث عن إنجازات عهد الخمسينات والستينات، إلا بكثير من الاحترام والتقدير والإجلال، وكثير من الحنين والشوق والافتخار والكرامة.
خاصة عندما نسير حالياً على طريق لا يقل أبداً احتراماً وتقديراً وإجلالاً عما سبق المضى فيه، ليقترن الماضى بكل قيمه بالحاضر بكل صعوبته بالمستقبل بكل أحلامه.
أعتقد أن تلك المقدمة لا بد منها عندما أتطرق لقضية الحديد والصلب، إحدى القلاع التى جنينا عليها طيلة خمسين سنة، ليتذكر البعض متأخراً جداً البكاء على الحديد الصدئ.
الشركة التى كانت أولى أكبر أربع شركات حديد وصلب متكاملة، تستعد الآن لمغادرة سوق الحديد (الذى جبر) بعد قرار تصفيتها الذى صدر مؤخراً.
الشركة التى كانت تنتج الحديد من مواد خام، وصولاً للمنتج النهائى والتى يقدر حجم إنتاجها (على الورق) بـ1.2 مليون طن، ظلت لسنوات طويلة مضت لا تنتج سوى 100 ألف طن فقط بحصة سوقية ضئيلة للغاية لا تتناسب وعراقتها.
الشركة التى كانت تمثل أهم مصدر محلى للبيليت تبيعه لشركات الدرفلة الأخرى، قتلها من كانوا يصرون على مدار 45 سنة من تحقيق الخسائر أن يحصلوا على أرباح سنوية، على مجهوداتهم فى تخسيرها.
الشركة التى حاربتها الحكومات المتعاقبة بداية من السبعينات وحتى 30 يونيو، قتلها كثير من المتشددين الذين كانوا يحلون لأنفسهم الضغط وابتزاز قيادات لم تكن فوق مستوى الشبهات للحصول على مال حرام فى صورة أرباح.
الشركة التى فشلت أن تجارى عمليات البناء والتنمية والمشروعات العملاقة الدائرة على مدار ست سنوات لم يحتج أحد من «البكايين» على عدم تشغيل الشركة بكامل طاقتها الإنتاجية، ولا على الفساد والإهدار وتعيينات الأقارب وأبناء العاملين، والبطالة المقنعة.
نفس الشركة التى فشلت فى التوسع والسيطرة فى فترة الجذب الاستثمارى الكبير على هذا النوع من القطاعات فى فترة التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الجديدة، فتوسعت كل الشركات إلا هى، وطورت كل الشركات من نفسها إلا هى.
ثقيلة هى المسئولية، وثقيل هو القرار، لكنه الموت المحتوم، على إنسان عاش شبابه كله فى إهلاك أجهزة جسده بالتدخين والمخدرات والكحوليات والحياة غير الصحية، ثم يأتى فى النهاية ويتفاجأ أنه محاصر بتلال من الأمراض القاتلة.
حال الحديد والصلب كحال ماسبيرو كحال الكثير من الأجسام المنهارة التى تنازع الموت.
ألم شديد يعترى من يقدر تلك الحقبة الجليلة من تاريخ مصر، لكنها أشياء أصبحت بالإهمال المتراكم لخمسين سنة مجرد «كراكيب» لن يكون لها قيمة سوى أن تتحول إلى «خردة» تباع بأى ثمن، لتفسح المجال للجديد الذى قد لا يكون بجودة الماضى، لكنه على الأقل يواكب المستقبل الذى يجرى بناؤه على قدم وساق.