أخطر ما فى رواية إبراهيم عيسى الأخيرة «كل الشهور يوليو».. هو عنوانها. إلام يرمى وإلام يومئ؟
هو تصريح كأنه الجهر، لكن سنحافظ جميعاً على اعتباره عنواناً ملغزاً دون أن نشرحه أو نتأول دلالاته، وسيحافظ هو معنا على هذا غالباً!
براعة «عيسى» فى روايته منشأها الصورة الكاملة التى لملم شتاتها وكوّن به اللوحة الأخيرة، فالجميع يحفظ أحداث يوليو، لكن بانتقاءات توائم انحياز الشخص أو ذائقته أو ما يبحث عنه فى التاريخ.. لكن لا أحسب أحداً حكاها هكذا ورتّبها وستّفها كأنها «بازل» يلملمه طفل بنهم واستكشاف وتحمس.
وكلنا يدرك ما فعلته الشخصيات الرئيسية فى هذا الحدث الضخم، لكننا دوماً كنا منشغلين بثنائيات ضيقة نتابعها ونتلصص عليها ونحاول تفسير ما جرى استناداً إليها (ناصر- عامر)، (ناصر- نجيب)، (نجيب -فاروق)، (نجيب- الإخوان)، (السادات- يوسف رشاد)، وما إلى ذلك من ثنائيات ضيقة صنعت الجانب الأوسع من دراما ثورة يوليو، حتى إن الدراما والسينما لما قدمت «يوليو» لم تبرح إسار هذه الثنائيات الجذابة بطبعها، فضاقت الدائرة من التكرار، وضاقت زوايا النظر، وتآكلت الحدوتة الضخمة ذاتياً.
غير أن عيسى حام حومة أوسع حول المشهد وحاول رصد علاقة الجميع بالجميع، فأحيا موؤودين من تراب النسيان، وسلط الضوء على مجهولات فى حياة شخوص «يوليو» البارزين، وتنقّل بين القصر والجيش والوفد والشارع والأمريكان والإنجليز والإخوان والشيوعيين والجميع.. فكأنما دراما يوليو تبدو الآن كاملة قدر المستطاع كما لم تكمل من قبل.
مارس عيسى خفة ظله المشهود له بها فأجهز على صلاح سالم الإجهازة الكارتونية التى تشفى غليل المغتاظ من شخصيته النزقة، ثم تفتح مسام التسامح مع طفوليته وسذاجته المستفزة.
وحوّل محمد نجيب إلى جنرال ربابة، على حد تعبيره المبتكر الظريف، وعبدالحكيم إلى مبتسم لطيف مغموس فى حب الدنيا وحب جمال وفق سياق إبهامه أكثر من وضوحه، والسادات إلى كسير الجناح يعتبره الجميع رجلهم عند الآخرين ولا يُصنَّف بذاته ويُجزم بولائه رغم شهرته الطاغية التى شكّلت له جدار حماية معنوياً.
أما عبدالناصر فقد وقف منه من عدة زوايا، تنتهى بك قارئاً إلى التحرز والتحوط منه حتى لو كنت تحبه وحتى لو كان فى قبره وحتى لو انقضت يوليو منذ أكثر من نصف قرن، فقد يتآمر عليك جمال ويسجنك ويخلد التاريخ أن الذى سجنك هو نجيب أو جمال سالم أو زكريا محيى الدين!
هذه الصور المعمقة التى رسمها عيسى للشخصيات والأحداث جاءت ثرية بالاستعانات والتدقيقات التاريخية الهائلة التى يدركها ويتذوقها من له أدنى علاقة بأى من هذه الشخصيات أو بحث عنها من قبل.
وهو ما وضعه أمام السؤال الذى لا يفنى: ما هى مساحات الفجوات المعرفية والتاريخية التى سددتها بشىء من الخيال؟ وهل الخيال والانتحال الذهنى هنا خيال خالص، أم أنه مد للأمور على استقامتها وتوقع بديهى لردود أفعال هذه الشخصيات فى هذه الأحداث؟
كل هذه الأسئلة تتنحى جانباً ويتفرغ لها النقاد الأدبيون.. لكن بأسئلة السياسة الملحة: كيف نجحت هذه الفوضى وهؤلاء الفوضويون الارتجاليون فى إمساك زمام البلد؟ ولأى مدى هيمنت الفوضى بالقصور الذاتى، أو بما صارت عليه طبائع الأمور، على مصر؟
وأين نحن اليوم مما فعله هؤلاء الشباب الثلاثينيون مع الملك الثلاثينى المطرود؟ هل ما زلنا نجنى إلى اليوم حصاد ١٦ عاماً من الحكم الطفولى لفاروق تلاها نصف قرن ويزيد من دولة يوليو التى رغم كل جدها لها طابع هزلى لا يخفى؟
هل هذه هى قواعد الكيمياء والحساب التى تحكم من يجلس فى غرفة الحكم دوماً؟ الأمريكان والإخوان والصحافة والشارع الطيب المكلوم الذى هو دوماً بحاجة لمن ينتقم منه ويفش غيظه؟
هل يكفى مصر رجل واحد يدرك ما يريد فى «مجلس القيادة»، ليمضى فيما يدرك وما يريد ولو على جثث رفاقه؟ وهل كل الأطراف ستتحول حتماً لضحايا دوماً؟ وهل مشهد النهاية لفاروق وناصر والسادات ومبارك لا بد أن يكون مأساوياً لأسباب تتعلق بهندسة البناء المعوج والمعوجة.. بحيث ينهار البناء فى نهاية المطاف حتماً؟
الأسئلة كلها -بإيماءاتها وحشوها- تعلق ناظريها تجاه عنوان الرواية، وتسأل عيسى عما يقصده فى روايته الضخمة التى مضت رشيقة ممتعة فى ثلثيها الأولين: هل كل الشهور -حقاً- يوليو؟