انشغل المصريون بالقرارات الخاصة بالعودة إلى المدارس ومواعيد الامتحانات وطريقة التعليم المختلطة بين أسلوبى التعليم المباشر فى المدارس والجامعات، وأسلوب التعليم عن بُعد الذى فرضته جائحة كورونا فى العالم كله. الانشغال شىء طبيعى، ووجود بعض الانتقادات الرصينة لغرض التطوير والتجويد شىء مُرحّب به. فالتعليم هو مصير الأطفال والأبناء، وهو صانع مستقبلهم ومستقبل بلدهم، وكما هو قضية الأسرة وأولياء الأمور، هو قضية أكبر بالنسبة للحكومة ولجميع أجهزة الدولة، ليس فقط فى مصر، بل فى بلاد العالم المختلفة.
وبينما اتخذت مصر قرارها بالعودة إلى المدارس واستكمال العام الدراسى، ومده لفترة أخرى إذا استدعت الضرورة ذلك، هناك بلدان كثيرة تعيش حالة إغلاق تام أو شبه تام، وتتوقف فيها المدارس والجامعات، وتُطرح فيها أيضاً مشكلات قريبة للغاية مما يُطرح فى مصرنا العزيزة. ولعلها صدفة أن يُصرّح رئيس الوزراء البريطانى قبل يومين بأنه يجرى التفكير فى العودة إلى المدارس يوم 8 مارس المقبل، وهو تصريح يعكس عدم اليقين بشأن إعادة فتح المدارس والجامعات فى بريطانيا قريباً بسبب تفشى الوباء، وهى مغلقة منذ ثلاثة أشهر. فى الآن نفسه تنشر بعض الصحف الكبرى تقارير عن حالة الطلاب النفسية السيئة، نظراً لعدم ذهابهم إلى المدارس. وهناك تقارير أخرى عن ثلاثة بلدان عربية أشارت إلى تسرّب التلاميذ فى التعليم العام، واندماجهم فى سوق العمل، نظراً لفقدانهم الدافع للتعلم وغياب الآليات والوسائل المناسبة لتلقى التعليم عن بُعد، كضعف شبكة الإنترنت وعدم قدرة الأسر على شراء مستلزمات الاتصال بالشبكة، مما يعنى أن العملية التعليمية فى تلك البلدان تواجه مأزقاً كبيراً.
فى الحالة المصرية، نجد أسلوباً تفاعلياً مع ظروف الجائحة. ما طرحه وزيرا التعليم العالى والتربية والتعليم بناءً على توجيهات الرئيس السيسى، استند إلى إحداث توازن بين بُعدين متقابلين؛ الأول الظروف الخاصة بمواجهة «كوفيد 19»، والتى تتطلب الحرص على صحة الطلاب والمدرسين وكل ذوى الصلة بالعملية التعليمية، واتخاذ إجراءات احترازية مشدّدة، والثانى ضرورة استكمال العملية التعليمية وعدم إهدار عام دراسى من حياة الطلاب. وبين هذين البُعدين يبرز بُعد ثالث هو دور الدولة وإمكاناتها الصحية والتعليمية والاتصالية، ومراعاة اتجاهات الرأى العام كما تظهر فى وسائل التواصل الاجتماعى ومجموعات الأمهات المعنية بمتابعة العملية التعليمية من زاوية مدى ملاءمتها مع احتياجات الأسر والطلاب. ولذا جاء توجيه الرئيس السيسى بأن يُحدّد الآباء الطريقة المناسبة لاستكمال العملية التعليمية لأبنائهم، لتأكيد المسئولية المشتركة بين الدولة والمواطنين فى مواجهة أعباء ظرف خاص للغاية، وفى الآن نفسه مشاركة عملية فى تحديد مصير الأبناء دون أدنى تعنّت أو إجبار. وعلى كل طرف أن يتحمّل مسئولية قراره.
أسلوب المشاركة بين أصحاب المصلحة والأجهزة المسئولة عن توفير هذه المصلحة يؤدى إلى تهدئة الوضع العام من جانب، ومراعاة هواجسه الخاصة بصحة الأبناء، وإلى التركيز أكثر لإنجاز المطلوب بأكبر قدر من الفاعلية والكفاءة من جانب آخر، وهو أسلوب كما يضع قدراً من المسئولية على الآباء، فإنه يضع مسئولية أكبر على تلك الأجهزة المعنية، وهى فى حالتنا الراهنة وزارتا التعليم العالى والتربية والتعليم ومعهما وزارة الصحة ووزارة الاتصالات. فإذا فضّل بعض الآباء أن يستمر أبناؤهم فى التعلّم عن بُعد، وآخرون يفضّلون التعلّم من خلال المدرسة، فإن مسئولية الوزارات الأربع تكمن فى توفير متطلبات هذين النوعين من التعليم بالقدر نفسه من الكفاءة والفاعلية فى ظل جائحة وبائية تثير القلق للجميع. وإذا كانت وزارتا التعليم العالى والتربية والتعليم قد اكتسبتا خبرة تنظيمية وإدارية وتربوية فى العام الماضى، يشيد بها الوزيران د. خالد عبدالغفار ود. طارق شوقى، فالمطلوب ليس فقط استعادة هذه الخبرة، وإنما تطويرها ومعالجة الثغرات التى ظهرت، سواء فى نظم الامتحانات، وفى عرض المواد الدراسية عبر المواقع التعليمية التى أنشئت لهذا الغرض. وأعتقد أن خبراء الوزارتين لديهم الكثير من الإمكانات التى تؤهلهم لتحسين العملية التعليمية عن بُعد، وأن يشرحوا بطرق مبسّطة ويسيرة كيفية إجراء الامتحانات عن بُعد، وكيفية تقييم الطلاب، لا سيما فى الشهادات التى يعتبرها المصريون حاسمة فى تحديد مصير أبنائهم. يقابل ذلك أن تكف مجموعات التواصل الاجتماعى عن المطالبة بحذف أجزاء من المناهج، وأن ينصحوا بعضهم البعض بكيفية تركيز الأبناء على المواد العلمية، وتوظيف الوقت فى التعلم، وليس الشجب والتشويه والنقد المبالغ فيه. مجمل القول إن هذه الأبعاد تمثل عملية متكاملة لا يمكن لطرف أن يضع كل المسئولية على الطرف الآخر، ويكتفى بطرح الآراء الممكنة وغير الممكنة.
هذه التجربة التى تمر بها مصر فى العملية التعليمية ستضيف قطعاً خبرة جديدة من أجل تطوير التعليم بجميع مراحله. وإذا كان عامل جائحة كورونا قد فرض تغيير العملية التعليمية رأساً على عقب، فإن عدم وضوح لحظة نهاية تلك الجائحة يفرض بدوره التعامل معها كأنها واقع معتاد ومستمر لفترة طويلة. ولذا فإن خبراء التعليم فى مصر مطالبون بعمل دراسات ميدانية واستطلاعات رأى، والتعاون مع مراكز البحوث المتخصّصة من أجل استيعاب أفضل وأكثر دقة لما تم فى العامين الماضى والحالى، ووضع خطط أكثر كفاءة للسنوات القادمة، فضلاً عن تطوير المحتوى التعليمى، بما يتناسب مع متطلبات التعليم الرقمى الآخذ فى التوسّع. وفى كل الأحوال ثمة مسئولية فى التواصل الشفاف مع الرأى العام دون انقطاع.
يبقى القول إن نجاح التعليم عن بُعد فى ظل الجائحات الوبائية لا يتعلق فقط بمسئولية الوزارات التعليمية، وإنما يتطلب تعاون أجهزة ووزارات أخرى فى الدولة، وتحديداً وزارتى الاتصالات والصحة، فدون حملات توعية صحية يتم تصميمها للطلاب الذين سيقرر آباؤهم الذهاب إلى المدارس والجامعات طواعية لغرض التعلم والاحتكاك المباشر مع الأساتذة والمعلمين، ودون توفير جميع متطلبات الإجراءات الاحترازية، لا سيما تعقيم الفصول المدرسية والمدرجات الجامعية، فغالباً سيرتفع مستوى الخطر الصحى، وهو أمر لا يمكن السماح به أو التهاون فيه. كذلك فبدون قيام وزارة الاتصالات بتطوير وتحديث شبكة الإنترنت ومتابعة دقيقة للشركات المقدّمة للخدمة وفق أسعار معقولة تقدر عليها الأسر المصرية، وضمان الوصول إلى كل شبر فى مصر، وليس فقط المدن الكبرى والمراكز الحضرية، وتوفير التردّدات القوية للقنوات التعليمية، واتخاذ كل الضمانات الفنية لوصول الشبكة الخاصة بوزارة التربية والتعليم إلى كل المدارس والجامعات، التى ستجرى فيها الامتحانات عن بُعد، تصبح العملية التعليمية معرّضة للتعثّر والفشل.