يوم الخميس الماضى نشرتُ مقالاً فى هذه المساحة عن «تاريخ سرقة الظل من حياة المصريين»، حاولت فيه الوقوف عند بعض أسباب ضعف إحساس غالبية المواطنين بأهمية الأشجار للحياة، وعدم الإيمان الحقيقى بقيمتها الجمالية والبيئية والصحية لدى كبار المسئولين تحديداً. وإذا كان العالم كله قد انتبه إلى خطورة ظاهرة التصحر وآثار التغير المناخى التى تعصف بصحة الأرض وساكنيها، ثم إذا كان كل علماء المناخ - دون استثناء واحد - قد اتفقوا على الأهمية القصوى لزراعة الأشجار فى كل مساحة ممكنة لمواجهة هذه الظواهر الصادمة والمدمرة.. فأى الأشجار نزرع فى شوارعنا ومدننا وعلى حواف طرقنا الحديثة وعلى ضفاف النيل والترع والمصارف، وفى قلب القرى التى تخضع الآن لمشروع تطوير عملاق غير مسبوق فى تاريخ مصر؟
والإجابة التى سأقدمها هنا الآن ليست اجتهاداً شخصياً، ولكنها مبنية على اطلاع واسع، وعلى استقصاء طويل لمعارف وخبرات وطنية وإقليمية وعالمية، لا مجال فيها للفهلوة، أو المعرفة السماعية التى كادت تُفسد هذا المشروع الرائع الذى طرحه قبل سنوات قليلة الرئيس عبدالفتاح السيسى، فتلقّفه على الفور وزراء ومحافظون، سارعوا إلى زرع عشرات الآلاف من الأشجار المثمرة فى شوارع بعض المدن، حتماً سيأتى اليوم الذى نسارع فيه إلى اقتلاعها قبل أن تتحول إلى كارثة صحية وبيئية تُضاف إلى جملة الكوارث التى نعانى منها.
نعم يا سادة.. زراعة الأشجار المثمرة فى الشوارع وعلى جانبى الطرقات وفى قلب الكتلة السكنية، مشروع شديد الرومانسية ومثالىٌ إلى أبعد حد، فليس هناك أجمل ولا أطيب من أن نفتح نوافذنا فنجد ثمار الفاكهة المجانية فى متناول أيدينا، وليس هناك أبدع من أن نمشى فى الشوارع فنجد المانجو والجوافة والبرتقال والخوخ والرمان متاحة مجاناً وبوفرة لكل المواطنين، ولكن الحقيقة العلمية المجردة تؤكد أن هذا «المشهد الجميل»، سينقلب فوراً إلى كارثة بيئية وصحية، عندما نكتشف أن ثمار فاكهة الشوارع امتصت واختزنت عادم السيارات الغالب فيه أكاسيد الكربون والرصاص والعوالق الترابية وعناصر ثقيلة أخرى تجعل هذه الثمار غير صالحة إطلاقاً للاستهلاك الآدمى أو الحيوانى، بل تحولها إلى غذاء سام وضار بالصحة.
إن أشجار الفاكهة المزروعة فى الشوارع لا يمكن أن تعطى ثماراً جيدة إلا إذا خضعت لبرامج رى وتسميد ورش مبيدات لمكافحة الآفات والأمراض، والمؤكد أنه إذا تم إهمالها فسوف تسرح جذورها عميقاً لتصل إلى الخزان الجوفى للمدن الملوَّث بمياه الصرف الصحى، لنصبح أمام عناصر أخرى شديدة السمية تختزنها الثمار وتُعرّض من يتناولها لأمراض خطيرة. وبالإضافة لذلك فسوف تتحول هذه الأشجار المثمرة إلى مرتع ومباءة لتكاثر الذباب والبعوض والآفات الحشرية، وبدلاً من استمتاع المواطنين بثمارها الشهية ستقتحم أسراب الذباب والبعوض البيوت وتحولها إلى جحيم لا يطاق، الأمر الذى سيضطر معه «المسئولون المثاليون» إلى إطلاق حملة ضخمة لرش الأشجار بالمبيدات، لنجد أنفسنا أمام حفنة أمراض أخرى تنشأ عن استخدام المبيدات فى قلب الكتلة السكنية!.
إننى أتصور اليوم الذى ستثمر فيه أشجار الفاكهة التى زرعها محافظون ورؤساء جامعات إقليمية، وكان معهم للأسف الشديد نقيب الزراعيين، وأتخيل تلاميذ وطلبة الجامعات وهم عائدون إلى بيوتهم وقد جمع كل منهم كمية من هذه الثمار الملوثة والمرشوشة بمبيدات سامة وقاتلة، ثم أنظر بعيداً لأرى حشوداً هائلة من الحشرات تتغذى وتتكاثر بفظاعة على هذا المعلف المجانى، ثم يخرج علينا هؤلاء المسئولون أنفسهم بمشروع قومى جديد لاقتلاع هذه الأشجار وتدمير الأرصفة التى أنفقنا عليها أموالاً طائلة أثناء اقتلاع الأشجار، ليضيع معها الوقت والجهد اللذين كان ينبغى استثمارهما فى زراعة أشجار أخرى هى الأجدى والأنفع لبيئتنا صحياً واقتصادياً وجمالياً.
والأشجار الأكثر نفعاً لم تعد علماً بعيداً عن متناول علمائنا، فالمعروف مناخياً أن مصر من البيئات شديدة الجفاف، حيث لا تسقط الأمطار إلا على بعض المناطق وبمعدلات لا تزيد على 200 ملليمتر فى السنة، وهو الأمر الذى يتطلب اختيار أشجار تناسب ظروفنا المناخية ولا تحتاج إلى معدلات تسميد عالية أو مكافحة آفات حشرية بالمبيدات، وإذا كان بعض الهواة الذين سافروا إلى دول أوروبية أو سافروا إلى دول أمريكا اللاتينية قد شاهدوا الشوارع تتزين بأشجار الفاكهة المثمرة، فليس معنى هذا أبداً أن هذه الأشجار تصلح لبيئتنا فى مصر، فالأمطار التى تسقط بكثافة شديدة وطيلة أيام السنة على هذه الدول الأجنبية، تغسل الأشجار وتخلصها من العادم والعوالق الترابية كل أسبوع، وأحياناً كل يوم، وفى غياب هذه الأمطار معظم أيام السنة - كما يحدث عندنا - تتكفل العوالق بسد ثغرات أوراق الشجر وتؤدى إلى تساقط الثمار وتعفنها، وتمنع الأوراق من امتصاص وهضم العوادم والأكاسيد من الجو، وتُضعف قدرتها على تجديد الهواء بإطلاق الأكسجين النقى الذى لا غنى عنه للإصحاح البيئى وصيانة صحة البشر والحيوانات والنباتات أيضاً.
واستناداً إلى هذه القواعد العلمية البديهية، فإن مسئولى المحليات الذين ملأوا شوارعنا بأشجار «الفيكس» دائمة الخضرة، قد ارتكبوا جريمة بيئية شديدة التعقيد، فقد تسببت هذه الأشجار (حوالى 15 مليون شجرة)، ومعها شجرة زينة أخرى اسمها «الكونوكاربس»، فى نشر عوائل حشرية امتدت إلى المحاصيل الغذائية الأخرى فى عموم مصر، كما تسببت فى تدمير شبكات الصرف الصحى وشفط خزان المياه الجوفية بشراهة شديدة، دون أن تضيف لحياتنا أدنى فائدة اقتصادية أو جمالية أو بيئية، حتى أخشابها اتضح أنها لا تصلح لإنتاج الفحم النباتى!.
وقد كان «الفيكس» ومعه عدد من الأشجار الأخرى سبباً رئيسياً فى انتباه كثيرين إلى أن قرار زراعة الشوارع والنوادى ومراكز الشباب وحواف الترع والمصارف، ينبغى انتزاعه من مسئولى المحليات، لأنهم فى اندفاعهم الجهول لزراعة هذه النوعية من الأشجار لم يراعوا غير شىء واحد، هو حصتهم من الأرباح الخرافية التى حققها أصحاب مشاتل الفيكس وأشجار الزينة معدومة الجدوى اقتصادياً وصحياً وبيئياً.
واللافت والمريب فى هذا الأمر أن موظفى وعمال الهيئة العامة لمياه الشرب والصرف الصحى، انتبهوا منذ عشرات السنوات إلى أن جذور هذه الأشجار التى تنتشر أفقياً تسببت فى تخريب الشبكات وتصدع جدران وأساسات البيوت وتدمير الأرصفة، كما رصد علماء مقاومة الآفات الزراعية أن العديد من الحشرات الدقيقة تكمل جزءاً من أطوار نموها على أوراق «الفيكس» وتظل فى حالة كمون حتى بدء نمو المحاصيل الزراعية الجديدة فتهاجر إليها وتدمر جانباً كبيراً من إنتاجها وتدفع المزارعين إلى استخدام المبيدات أكثر من اللازم لتقليل الخسائر الرهيبة الناجمة عنها!.
ورغم هذا كله، لم يتراجع مسئولو المحليات عن زراعة هذا الشجر المدمر للبيئة، وتكفى زيارة واحدة للمشاتل التى تملكها هيئة النظافة والتجميل، والمشاتل الأخرى المملوكة للقطاع الخاص المتعاقد مع المحليات، لنعرف أن مشروع إكثار «الفيكس والكونوكاربس والموسكيت» أصبح - فى غفلة من الجميع - شلال أموال يتم ضخها فى حسابات حفنة سماسرة ومقاولين ومسئولين، مقابل تدمير جودة حياة المصريين، وحرمانهم من رحمة الظل وفوائد الأشجار الصحية والجمالية والاقتصادية المذهلة.
والمحصّلة التى ينبغى أن ننتبه إليها فوراً، هى أننا فى حاجة شديدة الآن إلى إطلاق مشروع قومى جديد لزراعة الأشجار الخشبية عالية القيمة، ذات الجذور الوتدية، وأن نبتعد كل البعد عن هذه الأفكار المثالية لزراعة أشجار الفواكه فى شوارعنا، أو زراعة أشجار الزينة الممرضة للبيئة وللبشر وللزرع، وأن نلجأ إلى علماء وخبراء معروفين بالنزاهة والكفاءة العلمية، ليقولوا لنا، ما هى الأشجار التى ينبغى أن نزرعها فى كل مساحة ممكنة من تراب مصر؟. وإلى مقال مقبل.