مرّت الساعات والأيام الأولى بعد تراجع الزعيم جمال عبدالناصر ثقيلة وصعبة للغاية.. نعم خرج الناس فى 9 و10 يونيو يرفضون الهزيمة ويرفضون التنحى، وأدركوا أن المطلوب هو كسر الإرادة وكسر مصر ومنعها من استكمال مشوار التقدم، وبالتالى فلا يصح أن نحقّق أهداف العدو كاملة، فما أصاب القوات المسلحة يمكن تعويضه، لكن إذا كُسرت الإرادة فلن تعود أبداً، وسيكون الثمن باهظاً بما لا يمكن تعويضه أبداً!
كل ما سبق لا يمنع القلق ولا التوتر ولا الحزن على ما جرى ولا غموض المستقبل ولا وضوح خطة عمل الأيام المقبلة، ولا السنوات القادمة، ولا أى شىء اللهم إلا جرعات لإبقاء الروح المعنوية صامدة على الأقل، تمهيداً لتطويرها إلى زرع الأمل من جديد!
على الجانب الآخر، راح العدو يرتب أوضاعه على الخريطة على الأرض.. ها هى سيناء تحت يديه، يبنى ويتحصّن فيها وينشر قواته كما يشاء.
ولكن المعلومات إلى قيادة العدو العليا تقول إن قطعة صغيرة من سيناء لم تسقط بعد، وإن الأمر يبدو عجباً بعدم سقوط هذه المدينة الصغيرة بورفؤاد، التى لو احتُلت سيكون الأمر مهماً جداً من الناحية الاستراتيجية، نظراً لمواجهة المدينة لمدينة بورسعيد شديدة الأهمية لمدخل قناة السويس، فضلاً عن رمزيتها، باعتبارها المدينة التى سقطت فيها وبسببها الإمبراطورية البريطانية وذكريات انسحاب المعتدين فى 56 لا تُنسى.. ومن هنا تقرر احتلال بورفؤاد!!
كانت ثلاثة أسابيع تقريباً مرت على 5 يونيو.. الحدث لم يزل ساخناً، والبلد الجريح يداوى جراحه، واتفق القادة فى مصر على الصمود، كما أقروا ما طالب به الشهيد عبدالمنعم رياض من رفض أى صلح يُعرض على مصر، فلم تعد القضية استعادة أرض، وإنما استرداد اعتبار الجيش العظيم، وبعدها رفع «عبدالناصر» شعاره الشهير أن «ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة»! وفجأة ترسل السماء هديتها وتعطى عطاءها ويحدث ما كان الجميع ينتظره، وعلى أحر من الجمر كما يقولون!
حدث الصدام بين الإرادتين.. مطامع العدو وإرادة الصمود المصرية، تمهيداً لنقلها إلى الردع والاستنزاف.. فحدث ما يلى..
انتهى ليل الـ30 من يونيو عام 1967 أو يكاد وأوشك الشهر كله أن ينتهى، ويبدو أن القدر أراد أن تمزق مصر الصفحة كلها ويكون الأول من يوليو صفحة جديدة مختلفة تماماً.. مع الساعات الأخيرة منه كانت الملحمة.. ومع الساعات الأولى منه كان الأمل.. وبغطرسة لا مثيل لها أرسل العدو الإسرائيلى قوة مدرعة إسرائيلية سارت على امتداد ساحل سيناء الغربى، أو قل الضفة الشرقية لقناة السويس، بداية من القنطرة شرق فى اتجاه الشمال، تستهدف الوصول إلى بورفؤاد، كما قلنا كان الهدف احتلال بورفؤاد إن لم يكن لاحتلال بورسعيد نفسها فى ما بعد، فعلى الأقل تبقى تحت التهديد الدائم وإخراجها من معادلة القتال، ولكل ذلك أثره النفسى الرهيب.
على الجانب المصرى، لم تكن القيادة فى حيرة من أمرها مثل الشارع، بل بدأت تمسك بخيوط اللعبة، حتى تلقت قوات الصاعقة بالفعل الأمر فى 30 يونيو، ملخصه أن احتمال أن يتقدم العدو إلى بورفؤاد كبيرة جداً والأوامر بمنع احتلال المدينة بأى ثمن.. هكذا جاء القرار من القائد الأعلى جمال عبدالناصر، ومنه إلى القيادة العسكرية، ومنه إلى قيادة الأركان، ومنها إلى قيادة الصاعقة، ومنها إلى الكتيبة 43 صاعقة، المكونة من 35 فرداً فقط!
وبالفعل تقدّم العدو من القنطرة شرق لاحتلال بورفؤاد، ولكن كان أبطال الكتيبة 43 فى انتظاره!
نصبت الكمائن إذاً بهذه القوة الصغيرة على جوانب الطريق، وسيطر أبطالنا على المدق الواصل بين القنطرة شرق، ومنه إلى بورفؤاد والمحصور بين قناة السويس وسهل الطينة، وعند الساعة الثامنة جاء العدو!!
عشر دبابات قوة العدو مدعمة بقوة مشاة ميكانيكية فى عربات نصف مجنزرة، وفى أول هجمة دمّر أبطالنا ثلاث دبابات بمن فيها!!
فوجئت القوة الإسرائيلية بمقاومة عنيفة من قواتنا لم تكن فى الحسبان، تزايدت فيها الخسائر فى المعدات والأفراد، مما أجبرها على التراجع جنوباً!
عاود العدو الهجوم مرة أخرى لكنه فشل من جديد فى اقتحام الموقع بالمواجهة أو الالتفاف من أماكن أخرى.. بل حتى فى الأماكن الأخرى كان الوحوش فى انتظاره وفى كل لحظة خسائر.. كان العدو يعتقد أن المصريين موجودون بأعداد كبيرة.. نظراً لانتشارهم الكبير وخفة حركتهم، وكانت النتيجة تدمير بعض عربات نصف مجنزرة أخرى، وارتفاع خسائر الأفراد، التى لم تجد معها قوة العدو إلا الانسحاب!
مع تكرار المحاولة راح الأمل نهائياً من العدو فى احتلال المدينة.. ولا حتى الطائرات ستُجدى معه، فقد استخدمها وفشل، والأبطال فى بطون صحراء سيناء وصخورها وهم يتنقلون كالفراشات من مكان إلى آخر، ولا يمكن تصفيتهم بالطائرات، ولا يمكن إرسال قوات أخرى ستعود قتلى وجرحى..!
وانتهى الأمر بالتخلص من فكرة احتلال بورفؤاد.. وعاد العدو من حيث جاء.. لتكون أكبر نقطة ضوء أعادت الثقة إلى الجيش العظيم وكان الدرس واضحاً: مواجهة فعلية مع استعداد جيد وسينتصر أبطالنا لا محالة.. وقد كان!!
يستحق أبطال العملية الذين دمروا 3 دبابات و11 مدرعة وقتلوا وجرحوا 36 جندياً صهيونياً خلاف غنائمهم من المعدات، أن نذكرهم جميعاً.. لكن أسماءهم محفورة بحروف من نور فى تاريخ الجيش العظيم وسجلات الشرف المصرية وفى ضمير ووجدان شعبنا.. لكن نتوقف عند قيادات العملية.. قائدها الذى تلقى التعليمات هو البطل الرائد السيد الشرقاوى، الذى روى بكل الفخر والاعتزاز خلال السنوات الماضية ذكرياته عن العملية، حيث ظل فى الخدمة إلى رتبة اللواء.. بينما كان رئيس العمليات وقتها هو النقيب أحمد شوقى الحفنى.. الذى أشرف على تنفيذ الخطة وتابعها لحظة بلحظة ووفّر لها سبل النجاح، حيث تمت بلا أى خسائر.. لكن كان قائد فصيلة الضفة الشرقية أو الفصيلة 43 التى ذهبت ونصبت الكمائن وقاتلت هو ملازم وقتها فتحى عبدالله، الذى قدم عمره كله لقواته المسلحة ولشعبه ولوطنه وظل فى الخدمة العسكرية إلى رتبة اللواء وظل بعد التقاعد على العهد.. داعماً لجيشه ولأمته.. الملازم فتحى عبدالله وقتها، أو اللواء فتحى عبدالله كما هى آخر رتبة عسكرية تقلدها ووصل لها.. رحل إلى جوار ربه السبت الماضى.. لينضم وهو المجاهد البطل الذى كان من بطولته ورفاقه الأبطال التحول الكبير والأساسى لمعركة 67.. وبالفعل كان الاحتفاء بمعركة رأس العش كبيراً.. كتب عنها بعدها بسنوات الكاتب الكبير سعد الدين وهبة مسرحية كاملة أراد أن يضع فيها النقاط على الحروف بعد تجاهل حرب الاستنزاف بعد حرب أكتوبر.. محدداً معركتها بالتحول الرئيسى.
صحيح أن عام 67 نفسه شهد بطولات أخرى، منها تدمير إيلات وإغراقها وتحول ذكراها إلى عيد للقوات البحرية، ليزداد الأمل فى العبور والنصر أكثر وأكثر.. ولكن تبقى رأس العش هى التى فتحت الطريق كله.. ويكون اللواء البطل فتحى عبدالله الرجل الذى انتصر على إسرائيل فى 1967.. عليه وعلى رفاقه ممن رحلوا رحمات الله ورضوانه.. وأطال الله عمر باقى الأبطال!