هل تتجاور وسائل الإعلام أم تحل محل بعضها البعض بصورة نهائية؟
التجربة تقول إن الصحافة صمدت لدى انتشار الراديو ثم بقيت رغم استيلاء التليفزيون على كل شىء.. ثم قاومت لما ظهر الإنترنت.. وكافحت كفاحاً مريراً مع السوشيال ميديا والعالم الذى فرضته على الجميع.
الصحافة ذئب عجوز، لن ينتهى بسهولة ولن يجهز عليه وسيط جديد. هى فقط تضطر للتأقلم والتكيف مثلما تكيفت الكائنات الحية وضمرت بعض أجزائها وقويت أجزاء أخرى من أجسادها كى تتمكن من البقاء على مدار ملايين السنين.
وإذا كانت الفزعة أو فلنقل الصيحة الأخيرة هى الاندهاش والترقب والتخوف من الوحش الناشئ المسمى (كلوبهاوس)، فإننا إزاء حالة من التوجس لا أحسبها فى محلها.
حين ظهر الراديو بقيت الصحافة، ولما ظهر التليفزيون بقى الراديو، ولما عصف الإنترنت بالجميع بقى الكل.. وإن اختلفت نسبة الاستئثار بالجمهور وفق معادلات جديدة.
(كلوبهاوس) لن يقضى على «فيس بوك» ولا «الراديو»، بل سيضطرهما فقط لمزيد من التطور والتأقلم. ففى عالم اليوم لا يتفوق الأضخم على الأصغر.. بل الأسرع على الأبطأ.
والإنترنت خفيف، متحرر من أى أعباء، فعلى من يريد اللحاق بألاعيبه التى لن تنتهى أن يكون خفيفاً مثله، لا أن يتحرك كديناصور تائه.
استنفد «فيس بوك وتويتر» وسيط الكتابة بكل ما فيه: الآراء السياسية، النكات، الكوميكس والميمز والصور والفيديوهات. عشر سنوات كانت كافية لينفجر فيه الناس بكل طاقاتهم وغضبهم وإبداعهم. لكن الوسيط -ربما- كف عن إيراد جديد.
فى (كلوبهاوس) يجرب الناس وسيط الصوت، بكل ما فيه من حميمية وقرب وقدرة لدى البعض على التعبير عن الذات شفاهة بأفضل مما هى قدراتهم على الكتابة.
ولكل قدرة فى الإنسان لذة فى استعراضها، فنجوم وانفلونسرز الفيس بوك وتويتر لن يكونوا بالضرورة على رأس هرم كلوبهاوس.. كل وسيط سيفرز نجومه وآفاته وعيوبه.
بداية (كلوبهاوس) نفسها تشبه -وهذا تمثيل ضاحك- الأندية الماسونية المغلقة! للالتحاق بها لا بد من اقتناء هاتف آيفون، ثم لا بد من دعوة توجه لك من أحدهم.. واحد من هؤلاء الذين هم بالداخل!
وإذا تصفحت حساب أى مشترك ستدرك من الذى رشحه للدخول لهذا النادى، ثم يمكنك أن تتعقب من الذى رشح الذى رشح.. وهكذا وهكذا فى دائرة يمكنك أن تصل من خلالها للكفيل الأخير!
بطبيعة الحال كان النظر فى أروقة المجال العام فى مصر إزاء «كلوبهاوس» مزيجاً من التخوفات الأمنية والتحرزات السياسية والاتهامات الساخنة الجاهزة والكثير من الارتياب المعجون بماء نظرية المؤامرة. وكأن كل شىء فى هذا الكون يدور فى فلك «المحظورة» والتخديم عليها. أو كما قال الإمام على بن أبى طالب، كرم الله وجهه: (الناس أعداء ما جهلوا!).
النخبوية النوعية التى فرضها «كلوبهاوس» منشأها الانتقاء الاقتصادى المبدئى، فلن تدخله إلا إذا كنت تقتنى هاتفاً محمولاً باهظ الثمن من طراز «آيفون»، الذى يشيع اقتناؤه غالباً بين الإعلاميين والأمنيين والساسة والاقتصاديين وكل أولئك المستعدين للدفع مقابل «مزيد من التأمين للبيانات». ومن ثم فإن الخيار الاقتصادى لـ«كلوبهاوس» أضحى شائعاً فى الفئات الأكثر شيوعاً فى اقتناء الآيفون (على حد ملاحظتى دون إحصاء علمى أحاجج به).
هذا كله أفرز نقاشاً جديداً لشريحة نوعية من كل الاتجاهات، يمكنها أن تناقش مسائل السياسة بتحرر أكبر وتفاهم وقدرة على التغافر بأكثر من ذى سابق.
فالدوائر كلها متقاطعة، والجميع اكتفى من الشتم والسب واللعن والتخوين والتجريس والبلوك على مدار عشر سنوات، فلماذا لا يهدأ الكل ويفكر من جديد؟
لا مؤامرة فى «كلوبهاوس».. فالطبيعة (والإنسان فى قلبها) تتوازن بالمجاعة والوباء والحرب و«أخرى تذكر»!
الجميع أضحى أكثر نضجاً وربما أكثر براجماتية. ومن ثم فإن «كلوبهاوس» لن يهدد وسائل الإعلام التقليدية برونقه الذى سيزول عنه عاجلاً أم آجلاً (بالاعتياد)، مثلما ذهبت هواجس كثيرين حين رأوا أولئك القادمين من اللامكان بقدرات صوتية وإذاعية ومهارات فى التحدث والنقاش وإيراد الأفكار وإدارة الحوار. بل ربما يلهمها ويطورها.. لكنه لن يلتهمها. فوسائل الإعلام كيانات اقتصادية براجماتية وعندها موظفون ملزمون بالإنتاج اليومى.. بعكس «الهوجة» التى تشهد حماس البدايات ثم سرعان ما سترشد نفسها بنفسها.
و«كلوبهاوس» ليس تهديداً أمنياً محتملاً.. فالنقاش دائر بين الجميع علانية وسراً، والذين اندهشوا من اجتماع الفرقاء فى غرف «كلوبهاوس» كأنى بهم لا يعرفون أن الفرقاء يتواصلون سراً بطبيعة الحال!
الإعلام سيستفيد.. ولكن على السياسة أن تستفيد هى الأخرى وهى ترصد بعينها إلى أين وصل غاضبو الأمس.. وهل من سبيل لمشهد جديد؟
فالذى لا يجدد ذاته سيتحول لـ«فيس بوك» آخر.. مجرد ديناصور تأفل شمسه.