لا يمر أسبوع واحد دون أن نطالع تصريحات على أعلى مستوى حكومى، عن اهتمام الرئيس السيسى ورئيس الوزراء ومجموعة الوزراء المعنيين بالمشروع القومى لتبطين وتطهير الترع والمصارف، ومع كل تصريح فى هذا الصدد يزداد قلق المصريين وتنتشر على صفحات الفيس بوك التساؤلات حول أسباب انطلاق هذا المشروع القومى الضخم، وأسباب اهتمام الرئيس شخصياً بمتابعة أدق تفاصيل مراحل تنفيذ المشروع، ولا تكاد تخلو التساؤلات والتعليقات عليها من عشرات الإشارات الضمنية والصريحة التى تدور حول أن الأمر كله يشير إلى معرفة الرئيس والحكومة بأن «سد النهضة» الإثيوبى تحول إلى أمر واقع، وأنه لا بد سيحتجز كميات ضخمة من مياه النيل الأزرق خلال سنوات الملء الأولى، وأن مصر ستتعرض لا محالة لجوع مائى كارثى إذا لم تستعد فوراً بإجراءات بديلة لتوفير وترشيد استخدام المياه.
والحقيقة أن قلق المصريين من المصير المحزن فى حالة اكتمال بناء سد النهضة، له ما يبرره، فالكتابات والتصريحات الخبيرة وغير الخبيرة تملأ الصحف والفضاء الإلكترونى والفضائيات الصديقة والمعادية، وقبل أيام أجرت قناة الجزيرة مداخلة مع «دينا مفتى» المتحدث الرسمى لوزارة الخارجية الإثيوبية، وإذا به لأول مرة يتخلى عن حذره المعهود بعد أن سأله المذيع بطريقة مباشرة وشديدة الوضوح: هناك تقارير تتحدث عن أن إثيوبيا ستبيع المياه التى سيتم تخزينها خلف سد النهضة.. هل هذا صحيح؟.. وجاءت إجابة دينا مفتى حاسمة وكاشفة وكارثية.. حيث قال: «وما الذى يمنع ذلك؟.. كل شىء وارد.. الفائض من المياه والكهرباء أيضاً سنبيعه»، وبعد هذا التصريح الكاشف لحقيقة سد النهضة، عاد «مفتى» للاتصال مرة أخرى بالبرنامج بعد ١٥ دقيقة تقريباً من انتهاء اتصاله الأول.. ليقول للمذيع: أنا لم أقل إننا سنبيع المياه.. نحن ليس لدينا فائض من المياه لنبيعه»، ولكن المذيع لم يتركه قبل أن يطرح عليه السؤال بصيغة أخرى: هناك تقارير تتحدث عن أن إثيوبيا ستبيع المياه إلى تل أبيب. ما هو رأيك فى هذه التقارير؟!.. فأجاب «مفتى» على الفور: «لا أريد التعليق على هذه الجزئية»، ثم أغلق الخط!!
العارفون بملابسات هذه النوعية من المداخلات مع الفضائيات يستطيعون بسهولة استقراء ما حدث فى «أديس أبابا» بعد تصريح «دينا مفتى» الأول، ويتوقعون أنه تعرض لتوبيخ شديد من حكومته التى طلبت منه ضرورة الاتصال بالقناة لنفى «حكاية بيع المياه»، وقد فعلها الرجل وأنكر ما قاله جملة وتفصيلاً وسمعه الملايين بوضوح شديد قبل ١٥ دقيقة فقط من إنكاره، ولعل القارئ أو الدارس المهتم بقضايا المياه العذبة فى العالم كله، وفى القرن الأفريقى تحديداً، لم يكن فى حاجة إلى انتظار هذه «السقطة المدوية» من متحدث الخارجية الإثيوبية، وسواء قالها أو لم يقلها، وأنكرها أو لم ينكرها، فتخزين المياه بهذه الكميات شديدة الضخامة لا مبرر له على الإطلاق، غير أنه «بنك مياه إقليمى» يتعامل مع هبات الطبيعة باعتبارها مورداً اقتصادياً يخص دولة المنبع، ومن حقها أن تحتجزه -بالمخالفة لكل القوانين والأعراف الدولية- تمهيداً لبيعه إلى شركات الاتجار فى المياه التى ستقوم بدورها ببيعه إلى من يطلبه بعد اقتضاء أسعار مرتفعة تحقق لهذا الوحش الرأسمالى أرباحاً فاحشة، حتى لو دفعت الشعوب حياتها واستقرارها ووجودها ذاته ثمناً لهذا التوحش الإجرامى.
والحال كذلك، يحق للمواطنين فى مصر إبداء أعلى درجات الترقب والقلق، ويحق لهم التساؤل الدائم عن أسباب الاهتمام الشديد بالمشروع القومى الذى طرحه الرئيس لتبطين الترع والمصارف للحفاظ على كل قطرة مياه، كما يحق لهم متابعة مشروع آخر لا يقل أهمية عن المشروع الأول، هو تطوير الرى فى أراضى الدلتا والوادى والمناطق المتاخمة لهما، من رى بالغمر، إلى الرى بالتنقيط، وكل من له صلة بقضايا الزراعة والرى، يعرف جيداً أن التحول إلى الرى بالتنقيط سيوفر كميات لا بأس بها من المياه، وهو الأمر الذى يعزز قلق المواطنين ويدفعهم إلى الإحساس بأن الحكومة، ربما كانت تعرف أن حجز مياه النيل الأزرق خلف سد النهضة على وشك أن يصبح واقعاً كارثياً، أو قدراً لا فكاك منه، وأن هذه المشروعات القومية العملاقة هى الاستجابة السريعة لمواجهة بعض تداعيات هذه الكارثة.
القلق إذن له ما يبرره، والتساؤلات مشروعة ومطلوبة، شرط أن نعى حقيقة أخرى لا يختلف عليها اثنان من خبراء الأراضى والرى، وهى أن مشروعى تبطين الترع والتحول إلى نظم الرى الحديثة، من أهم المشروعات التى طالب بها الجميع قبل حوالى ٥٠ عاماً تقريباً، ومن أخطر القضايا التى ظل خبراء ومفكرون كبار -مثل جمال حمدان ورشدى سعيد وإسماعيل عبدالجليل- يطرحونها فى كل مناسبة، باعتبارها جراحة لا غنى عنها إطلاقاً لإنقاذ الأراضى السوداء فى الوادى والدلتا من ظاهرة ارتفاع منسوب المياه الجوفى وغلق مسام التربة وخنق جذور النباتات والمحاصيل وتراجع الإنتاج وارتفاع ملوحة التربة وانهيار خصوبتها، وتعرضها التدريجى للتصحر والجفاف.
نعم، كان هذا المشروع العملاق لتبطين الترع والمصارف والتحول إلى نظم الرى الحديثة، هو المطلب الدائم لكل الخبراء، ولكن الحكومات المصرية المتعاقبة كانت دائماً تؤجله أو تتغافل عن أهميته، بسبب التكلفة الباهظة، والذى حدث بسبب التأخر فى تنفيذ هذا المشروع يعرفه الجميع: فقد خسرت مصر مساحات هائلة من أخصب أراضيها بسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفى تحت التربة، وتعرضت مئات آلاف الأفدنة للملوحة والتصحر بسبب هذه الظاهرة.
ولعل التهديد الوجودى لسد النهضة قد ساهم بدور كبير فى سرعة تنفيذ هذا المشروع، وربما كان أحد أهم أسباب الضغط على مصر للالتفات الجاد إلى قضايانا المصيرية الحقيقية، ومن بينها أول لعل أهمها، قضية صيانة ورفع كفاءة أراضى الوادى والدلتا، التى يعتبرها كل خبراء الجيولوجيا من أعظم هبات الطبيعة التى منحها الله لمصر.. وكان إهمالها جريمة لا تغتفر، وتركها للتصحر والملوحة وانهيار جودتها خيانة حقيقية لثروة لا تكفى كل أموال الدنيا لتعويضها إذا ضاعت من بين أيدينا.
فى هذا السياق أيضاً، لا ينبغى أبداً لكل من يدلى برأيه فى قضية على هذا القدر من الأهمية، وكل من يتناول أداء الحكومة المصرية بالتحليل، أن يتغافل أبداً عن مشروع آخر لم نعطه ما يستحقه من التأمل والتدبر، وهو المشروع الذى طرحه الرئيس عبدالفتاح السيسى قبل أيام، لإنشاء دلتا جديدة على مشارف الدلتا القديمة، فى منطقة الضبعة، وهو المشروع الذى دشنه الرئيس فى البداية عندما كلف القوات الجوية بالإشراف على استصلاح ٥٠٠ ألف فدان تحت شعار «مستقبل مصر»، ومؤخراً أضاف الرئيس ٥٠٠ ألف فدان أخرى كلف وزارتى الزراعة والرى وبعض الجهات الأخرى باستصلاحها، ولعل الذين شاهدوا زيارة الرئيس إلى هذه المنطقة على محور الضبعة الذى يشق الصحراء الغربية من ٦ أكتوبر إلى ساحل المتوسط، سألوا أنفسهم: إذا كانت مصر تواجه احتمال حجز معظم حصتها التاريخية من مياه النيل.. فمن أين سندبر المياه الكافية لرى مليون فدان جديدة فى الصحراء؟
والإجابة التى لا توجد إجابة أخرى غيرها، هى أننا أمام تحد خطير.. وأن كل الخيارات مفتوحة لمواجهته، وأن هناك الكثير جداً مما لا يجب قوله الآن، ولكن فى كل الأحوال، ومهما حدث، فإن مشروع الدلتا الجديدة طلقة كاشفة فى ميدان ملتبس وشائك.. طلقة تعلن عن أن مصر ماضية فى بناء حاضرها ومستقبلها وهى تعلم جيداً أنها تمتلك كل مقومات البناء وحمايته بكل الوسائل إذا اقتضت الضرورة ذلك.