لماذا تحول رمضان إلى شهر ترفيهى بدلاً من شهر روحانى؟
كنت طفلاً صغيراً غاضباً من أمى -رحمة الله عليها- التى منعتنى وإخوتى من مشاهدة فوازير رمضان بينما يتابعها كل أصدقائى! ولم تشفِ غليلى إجابة والدتى المقتضبة «رَمَضَانَ شهر عبادة مش فوازير!»، لم أكن أفهم منطق أمى، وقد كنت طفلاً أعتبره تشدداً فى الدين لا فائدة منه.
فكيف ستؤثر مشاهدة طفل صغير لفوازير على شهر رمضان؟ ومن منكم سيدير جهاز التلفاز ليواجه الحائط فى رمضان كما كانت تفعل؟
مرت السنوات وأخذتنى دوامة الحياة وغطى ضجيج معارك الدراسة والعمل على همسة سؤالى الطفولى، حتى أراد الله أن تأتينى الإجابة عن هذا السؤال من رجل مُسن غير متعلم فى إحدى سفرياتى إلى الركن الآخر من الكرة الأرضية! كان ذلك الرجل هو عامل أمريكى فى محطة بنزين اعتدت دخولها لشراء قهوة أثناء ملء السيارة بالوقود فى طريقى إلى الأوتيل الذى أقيم فيه.. وفى اليوم الذى يسبق يوم الكريسماس دخلت لشراء القهوة كعادتى.. فإذا بى أجد ذلك الرجل منهمكاً فى وضع أقفال على ثلاجة الخمور! وعندما عاد للـ(كاشير) لمحاسبتى على القهوة سألته «لماذا تضع أقفالاً على هذه الثلاجة؟»، فأجابنى: «هذه ثلاجة الخمور» وقوانين الولاية تمنع بيع الخمور فى ليلة ويوم الكريسماس يوم ميلاد المسيح. نظرت إليه مندهشاً قائلاً: أليست أمريكا دولة علمانية! لماذا تتدخل الدولة فى شىء مثل ذلك؟ قال الرجل: «الاحترام».. يجب على الجميع احترام ميلاد المسيح وعدم شرب الخمر فى ذلك اليوم حتى وإن لم تكن متديناً، وأكمل الرجل دهشتى فقال «إذا فقد المجتمع الاحترام فقدنا كل شىء»!
(الاحترام) ظلت هذه الكلمة تدور فى عقلى لأيام وأيام بعد هذه الليلة.. فالخمر غير محرم فى أمريكا، ولكن المسألة ليست مسألة حلال أو حرام.. إنها مسألة احترام! فهم ينظرون للكريسماس كضيف يزورهم كل سنة ليذكرهم بميلاد المسيح عليه السلام.. وليس من الاحترام السكر فى معية ذلك الضيف.. فلتسكر ولتعربد فى يوم آخر إذا كان ذلك أسلوب حياتك.. أنت حر.. ولكن فى هذا اليوم سيحترم الجميع هذا الضيف وستضع الدولة قانوناً!
فهل لنا أن نحترم شهر القرآن ونعرف ماذا نشاهد فيه؟!
إن إعلامنا نزع مفردة الاحترام من قاموسه، من خلال ما يقدمه فى شهر القرآن من إسفاف وبذاءات فى أغلب الفنون، والبرامج، والإعلانات الدعائية وما يعملون عليه من تدمير للقيم والأخلاق، فلا نرى من خلال ما يقدم بناء وتنمية، بل الهدم لأهمية وقيمة العلم والتعلم، والعمل، والأخلاق الطيبة، والرضا، والقناعة، والأمانة، والنزاهة، والصدق، والعفاف، والعدل، والمساواة، والحياد، إلى غير ذلك من الأخلاقيات التى حثت عليها جميع الأديان ونبراسها شريعتنا الإسلامية الغراء.
ولكن هل نتحلى نحن باحترام شهر رمضان حسبة لله واحتراماً وتقديراً لهذا الشهر العظيم وقدره عند الله؟ ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه «وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ».. ليت ذلك يكون؟
وأرجو من حكومة د. مصطفى مدبولى العمل الجاد -من خلال التوجيه والإلزام- على بناء منظومة الأخلاق والقيم الحسنة البناءة، ليس فى شهر رمضان فقط ولكن فى كل شهور العام التى يجب أن يناط بوسائل الإعلام تكريس جانب كبير منها من خلال البرامج المختلفة والفنون القيمة والإعلانات الهادفة، التى تزكى النفس، وتطهر العقول من أدناسها، وتدفع للعمل الجاد والبناء لتنمية الوطن وإعلاء شأنه.
وكلمة هى الأخيرة: إن بناء عقل وثقافة شباب مصر والسمو بأخلاقهم هما الرصيد الحقيقى لهذا الوطن؛ فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، ولهذا يجب أن يوجه اهتمام الدولة الأكبر إلى بناء منظومة العلم والأخلاق والضرب بيد من حديد على كل من يحاول العبث بها من المفسدين، فبناء الدولة لن يكون بالإنشاءات فقط، نعم إن العمل على إنشاء البنية التحتية والمدن السكنية له أهميته القصوى إلا أنه لن يغنى عن صحوة العقل وبناء البشر، فمصر لن تتقدم أبداً فى ظل فساد منتشر، وتدهور أخلاقى مستشرٍ، وجحيم علمانى مستعر، وفكر إلحادى منحرف ينادى بالحرية المطلقة الهدامة لكل القيم والأخلاق، التى لا تقف عند احترام حقوق الآخرين وخصوصياتهم فى المجتمع الواحد.
اللَّهُمّ رَدَّنَا إلى دِينِك رداً جميلاً بِرَحْمَتِكَ يَا خَيْرَ الرَّاحِمِينَ.