لا خلاف على أن التعليم يمثل الركيزة الأساسية لتحقيق التقدم، باعتباره أهم مجال من مجالات التنمية البشرية، التى لا يمكن تحقيق التقدم فى أىٍّ من المجالات دون إحداث طفرة فى التعليم. وفى التاريخ المصرى الحديث، اعتمدت الطفرة الهائلة التى تحققت فى عهد كلٍّ من محمد على وحفيده الخديو إسماعيل على عدد من الركائز كان التعليم فى مقدمتها.
وفى العقود الأخيرة، اضطلع التعليم بالدور المحورى فى الطفرات الهائلة التى حققتها دول مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وفيتنام وكوبا، دون الحديث عن الدول الأكثر تقدماً.
ولا ريب أن الزيادة المطردة فى أعداد الملتحقين بمراحل التعليم المختلفة خلال نصف القرن الأخير، وهى ظاهرة محمودة باليقين وتستحق الإشادة، قد ترتب عليها تراجع فى مستوى جودة مخرجات العملية التعليمية فى مصر، ما أثر سلباً على كفاءة الشباب المصريين والفتيات المصريات، وعلى القدرة على المنافسة فى سوق العمل المحلى والخارجى على حد سواء. لم تعد المدارس قادرة على استيعاب أكثر من مليونى تلميذ جديد كل عام، ولم تعد المدارس قادرة على تقديم تعليم ذى جودة لأكثر من عشرين مليون طالب وطالبة فى مراحل التعليم المختلفة.
وبالرغم من زيادة أعداد المدارس الخاصة والأجنبية خلال السنوات الأخيرة، فإنها لا تستوعب إلا نسبة محدودة من الطلاب. ولا تزال المدارس الحكومية تستوعب أكثر من تسعين بالمائة من الملتحقين بالتعليم، وهى ظاهرة مرشحة للاستمرار خلال العقود القادمة. فمن المتوقع ألا تستوعب المدارس الخاصة والأجنبية سوى نسبة ضئيلة من أبناء وبنات الأسر المصرية القادرة على تحمّل نفقات التعليم الخاص والأجنبى. ومن ثم، ينصب حديثنا بالأساس على التعليم فى المدارس الحكومية التى تستوعب الأغلبية الكاسحة من أبناء وبنات الأسر المصرية فى جميع المحافظات.
ويكاد يكون من المستحيل لعوامل كثيرة، التمكن خلال الأمد المنظور من توفير تعليم ذى جودة مرتفعة يتواكب مع العصر للملايين وفى جميع المدارس. وفى الوقت نفسه، لا يمكن أن تتخلى الدولة عن مسئوليتها فى تقديم أفضل تعليم ممكن لجميع أبناء وبنات الوطن.
وحيث لا نملك ترف الانتظار حتى يتسنى تطوير عشرات الآلاف من المدارس التى تستوعب ملايين الطلاب والطالبات، واتساقاً مع مبادئ المساواة والعدالة بين الجميع التى تنطلق رؤيتنا منها، نقدم مقترحاً يضمن توفير الفرص المتساوية لجميع أبناء وبنات الوطن، ويقدم تعليماً ذا مستويات جودة عالمية للمتميزين من أبناء وبنات الوطن وفقاً لمعايير موضوعية. تقوم فكرة المقترح على إنشاء مدرسة إعدادية على أعلى مستوى ممكن فى كل مركز أو قسم إدارى فى جميع محافظات الجمهورية، وإتاحة الفرصة للمتفوقين والمتفوقات فى نهاية المرحلة الأولى من التعليم الأساسى للالتحاق بهذه المدارس، من خلال اختبارات تسمح بانتقاء الأكثر نبوغاً بين المتقدمين والمتقدمات. ويكمل المقترح إنشاء مدرستين ثانويتين بمعايير جودة عالمية فى عاصمة كل محافظة من محافظات الجمهورية، إحداهما للطلاب والأخرى للطالبات. وتتاح فرصة التقدم لتلك المدارس للمتفوقين والمتفوقات فى شهادة إتمام المرحلة الأخيرة من التعليم الأساسى أو الإعدادية، ويتم انتقاء الأكثر نبوغاً بناء على اختبارات موضوعية تضمن العدالة بين جميع المتقدمين والمتقدمات.
ومن الضرورى أن تكون البنية الأساسية فى تلك المدارس على أعلى مستوى، وأن يُستقطب للعمل فيها أفضل المدرسين والمدرسات.
لقد كنت فى النصف الأخير من سبعينات القرن الماضى طالباً فى مدرسة بنها الثانوية للبنين فى مدينة بنها، عاصمة محافظة القليوبية. وكانت مدرستنا الحكومية تضم معامل ومدرجات للكيمياء والفيزياء والأحياء وقاعة مسرح كبيرة ومكتبة ضخمة تضم مراجع يستعين بها طلاب الجامعات، وقاعة للموسيقى، وغرفة لتنس الطاولة، وملعبين متعددى الأغراض، وحيث تعتبر جودة التعليم فى سنغافورة هى الأفضل على مستوى العالم، يقترح تطبيق نظام التعليم فى سنغافورة فى تلك المدارس المقترح إنشاؤها للمتميزين من أبناء مصر وبناتها.
لا يعنى ما سبق إهمال باقى المدارس، بل ينبغى عدم التوقف عن السعى للارتفاع بمستوى جودتها تدريجياً كى تصل إلى المستوى اللائق، خلال أقل عدد ممكن من السنوات