حوار سريع مع إحدى ابنتى التى لم تبلغ السادسة عشرة من عمرها بعد جعلنى شديد الاقتناع بأن ما حدث فى فلسطين الأيام الأخيرة لم يكن إلا انتصاراً ساحقاً لقضيتها بكل المقاييس.. وأن الدولة الفلسطينية -الباحثة عن نفسها فى العقدين الأخيرين- قد تلقت قبلة الحياة بهدية إسرائيلية الصنع قدّمها لهم مستوطنو حى الشيخ جراح الذين حاولوا إخراج سكانه الفلسطينيين منه بسذاجة يُحسدون عليها..!
الحوار بدأ بالسؤال عمن هو محمد الدرة؟! ثم استمرت الأسئلة التى مسّت كنه القضية الفلسطينية.. وتطرقت إلى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى.. حوار تخللته تعليقات أثبتت لى أن جيلاً كاملاً وربما أكثر لم يتعرف على تلك القضية من قبل..!
جيل لم يسمع باتفاقية چينيف.. ولم يعاصر معاهدتى أوسلو الأولى أو الثانية.. جيل لم يشاهد توقيع اتفاقية غزة - أريحا، وبروتوكول باريس على شاشات التلفاز عبر نشرة أخبار التاسعة.. لم يسمع من قبل عن مصطلحات مثل «حق العودة» أو «حل الدولتين»، أو غيرهما من المصطلحات التى تربينا عليها نحن الأجيال الأكبر سناً.. والتى نتعامل معها باعتبارها معروفة للجميع، فى حين أن أجيالاً كاملة لم تسمع عنها من قبل!!
لقد نجحت مجموعة صغيرة من المستوطنين فى إعادة الزخم حول القضية الفلسطينية من جديد.. وإعادة إنتاجها للعالم بمنتهى الوضوح وبتجرد شديد..!
مجموعة من البشر يعيشون فى منازلهم بأحد أحياء القدس منذ أكثر من خمسين عاماً.. ليأتى لهم مجموعة أخرى يرغبون فى طردهم لتحويل الحى إلى بؤرة استيطانية.. غير مستندين إلى أى موقف قانونى أو حتى تاريخى.. وغير مدعومين سوى بقوة السلاح وقوانين البلطجة وحدها!!
لا شك أن أضراراً عظيمة طالت القضية الفلسطينية بسبب استخدام حركات الإسلام السياسى لها خلال العقود الأخيرة.. أضرار أدت إلى انحراف الأهداف وضياع الفرص واحدة تلو الأخرى.. دون أن تبدو فى الأفق بارقة أمل للعودة إلى المسار الصحيح.. أو البحث عن الهوية الحقيقية للقضية التى تربينا عليها.. ولكن ما حدث أعاد الأمور إلى نصابها بشكل كبير..!
لقد نجح هؤلاء المستوطنون فى أن تطفو القضية إلى السطح مرة أخرى.. فى أن يتذكر العالم هذا الشعب الذى يئن تحت وطأة آخر احتلال فعلى بشكله القديم فى العالم كله.
نجحوا فى إثبات أن اتفاقيات إبراهام للتطبيع مع الدول العربية هى اتفاقيات سلام وليست تحالفات حرب.. وأن الهدف الرئيسى منها هو الحياة وليس الموت.. وأنها برمتها لن تنجح فى إلغاء الجنسية الفلسطينية من على ظهر الكوكب كما كانوا يمنون أنفسهم..!
وسائل إعلام غربية متعددة تحدثت أن أحداث الشيخ جراح ومن بعدها الاعتداء على قطاع غزة كانت نقطة تحول فاصلة فى الطريقة التى يُنظر بها إلى الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى فى جميع أنحاء العالم، خاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.. بل إن تقارير تؤكد أن انقلاباً واضحاً فى سياسة الحزب الديمقراطى الأمريكى نحو إسرائيل قد حدث فى الأيام الأخيرة!!
لقد نجحت الدولة المصرية فى اتفاق الهدنة التى تمت برعايتها الخالصة فى انتصار دبلوماسى كبير لها.. وأثبتت أنها عادت لدورها القيادى مرة أخرى بعد سنوات طويلة من الابتعاد.. وفقد المتأسلمون ذريعتهم فى البحث عن قضية تبرر وجودهم المشوه للمنطقة بأسرها..!
هى مكاسب متعددة حققتها الدولة الفلسطينية -والأمة العربية كلها- خلال الأيام الماضية.. مكاسب لم تكن لتتحقق إلا بهذا الاعتداء السافر.. مكاسب تحتاج أن تستمر وتنمو فى المستقبل القريب.. فقط إذا أحسن الشعب الفلسطينى استغلالها.. فالحل لن يكون إلا بأيديهم وحدهم.. أو هكذا أعتقد!!