مرت أربع وخمسون سنة على كارثة يونيو 1967، أكبر هزيمة عسكرية تعرضت لها مصر فى تاريخها الممتد لآلاف السنين. ومع ذلك، سعى المصريون منذ اليوم التالى للهزيمة المروعة إلى محو آثارها، بالاعتماد بالأساس على قدراتهم الذاتية، وليس على قوى أخرى شقيقة أو صديقة، مهما بلغت درجة إخلاصها وقوة تأييدها للمواقف المصرية.
شرعت مصر فى إعادة بناء قواتها المسلحة على أيدى نخبة يندر تكرارها من أبنائها المخلصين، وتم تهجير عشرات الآلاف من الأسر المصرية من محافظات بورسعيد والإسماعيلية والسويس إلى مدن الدلتا وقراها. وأقامت معظم هذه الأسر، لا سيما فى الأشهر الأولى التى أعقبت الحرب، فى أماكن إقامة غير لائقة، أو لدى أقاربهم فى قرى مصر ومدنها. وتوقفت كل مشروعات التنمية، حيث تم توجيه كل الجهود لمحو عار الهزيمة.
وتم تجنيد خريجى الجامعات كضباط احتياط فى القوات المسلحة، واستمر جميع المجندين الذين عاصروا الحرب، وجميع زملائهم الذين تم تجنيدهم لاحقاً فى القوات المسلحة، إلى ما بعد حرب أكتوبر عام 1973. تحولت معظم المدارس لنظام الفترتين، وأحياناً لنظام الفترات الثلاث، فى اليوم الواحد لعدم توافر موارد لإنشاء مدارس جديدة أو فصول إضافية لاستيعاب التلاميذ الجدد، ولأن بعضاً من المدارس استخدمت كأماكن لإقامة الأسر التى هجّرت من محافظات القناة.
وعانت معظم المدارس من عدم توافر مدرسين فى عدد من التخصصات بسبب التجنيد الإجبارى لجميع خريجى الجامعات، وتم تكليف بعض مدرسى ومدرسات التاريخ أو الجغرافيا أو الاجتماع أو الفلسفة أو غيرهم من خريجى وخريجات أقسام كليات الآداب بتدريس اللغات الأجنبية فى المدارس الإعدادية والثانوية لسد العجز فى هذه التخصصات. لم يتململ المصريون، بل كانوا على اقتناع تام بضرورة توجيه كل الجهود لتحرير سيناء ورد الاعتبار واستعادة كبريائهم وكرامتهم. ولذلك، تمكن نفر من أبناء مصر المخلصين من الصمود فى ملحمة رأس العش، ومن تدمير المدمرة إيلات، ومن إدارة حرب الاستنزاف الطويلة مع العدو، التى زخرت بأمثلة رائعة من البطولة والتضحيات، وكان المصريون من جميع الأعمار يتفاعلون مع كل معركة يخوضها أبناء جيشهم منذ معركة رأس العش وحتى وقف إطلاق النار عام 1970. وبرغم الشعور بالفخر الشديد للبطولات المستمرة خلال السنوات الثلاث التى أعقبت الهزيمة، ظل المصريون ينتظرون لحظة استرداد الكرامة واستعادة الكبرياء.
وجاءت ملحمة العبور العظيم فى العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر، لتكافئ المصريين على صمودهم الأسطورى وتضحياتهم الجسيمة خلال ست سنوات، وكان خطاب الرئيس السادات بعد عشرة أيام على بدء المعركة مناسبة لاحتفال أمة عظيمة بلحظة طال انتظارها. كانت مرارة الهزيمة المروعة شديدة القسوة على الجيل الذى عاصر الكارثة، لا سيما من الأطفال والشباب، ولذلك كانت فرحة العبور عارمة فى كل شبر من أرض مصر الطاهرة. وبالرغم من فداحة كارثة الهزيمة، فقد تعلم المصريون ألا يُستدرج جيشهم إلى مغامرات غير محسوبة خارج حدود الوطن (حدثت الكارثة وقرابة نصف الجيش المصرى فى اليمن)، وأن اختيار القيادات الأكثر كفاءة من أبناء مصر هو السبيل لتحقيق النصر.
ويكمن الدرس الأكثر أهمية فى عظمة مصر وأبنائها، فقد اعتقد كل الأعداء والأصدقاء أن مصر لن تقوم لها قائمة قبل عدة عقود، لكن الشعب المصرى العظيم أثبت، كما هى العادة، قدرته على صنع المعجزات، فتجاوز المحنة وعبر الهزيمة بالرغم من كل العوائق. تحية لكل شهيد ومصاب فى حروب يونيو والاستنزاف والعبور، وتحية لكل القادة والضباط وصف الضباط والجنود، وتحية لكل مجند استمرت فترة تجنيده سبع سنوات. تحية لكل أسرة مصرية هجرت منزلها فى محافظات القناة، وتحية لكل أسرة مصرية فى الدلتا والوادى استضافت أسرة من المهجرين. تحية لجيل كامل لم تتوافر له كثير من السلع والخدمات الضرورية، وليس الكمالية بالطبع، ولم يشعر بالغضب انتظاراً للحظة رد الاعتبار. تحية لشعب مصر العظيم.