تخيل لو أننا عدنا بالسنوات إلى الخلف قبل ظهور المواقع الإلكترونية، والسوشيال ميديا، حيث لا يوجد سوى الصحف والمجلات المطبوعة والتلفزيون والإذاعة، وعلى طريقة أفلام الخيال العلمي، منحنا لكل مواطن صحيفة وموجة إذاعية وقناة تلفزيونية، يمتلكها وحده ويبث من خلالها الأخبار ويعرض التقارير والنشرات، ويكتب المقالات ويوزع على كافة أنحاء الجمهورية. تخيل أنك كل صباح وعند خروجك من المنزل تجد مئات الآلاف من أعداد الصحف اليومية تغطي كل شبر في طريقك، تملأ الشوارع والأرصفة وأسطح المنازل والشرفات، تخيل أنك غارق بحياتك وسط كل هذه الصحف، بمختلف مسمياتها (كل صحيفة باسم مواطن).
ووسط كل هذا الكم من الصحف، هناك ملايين الإذاعات تبث في كل منزل وحارة وشارع وناصية، وملايين من القنوات التلفزيونية تعمل على مدار الساعة، تعرض الأخبار مباشرة من مواقع الأحداث، وتخيل كم الأحداث التي تعرض في وقت واحد، (حادث طريق، انهيار عقار، مشاجرة.. إلخ).. تخيل لو كان هذا العالم مزدحمًا بملايين الصحف والقنوات والإذاعات!..
والآن وفي عام 2021، تحوّل هذا الخيال إلى واقع يجب أن نواجهه رغم اختلاف الوسائل، فعمليًا واقتصاديًا من المستحيل أن يمتلك كل مواطن صحيفة أو إذاعة أو محطة فضائية، وبالتالي تمتلكها مؤسسات حكومية أو أحزاب أو رجال أعمال قادرون على تمويلها وإدارتها، لكن الآن أصبح الأمر أبسط وأسهل بكثير، فالحقيقة أن كل مواطن أصبح لديه القدرة على امتلاك ما هو أهم واسرع انتشارًا من تلك الوسائل، كل ما يحتاجه هو إنشاء بريد الكتروني مجاني، ليصبح مالكًا لقناة على يوتيوب، وحسابًا على فيسبوك وتويتر، وتيك توك، وينافس صحيفة يومية أو محطة تلفزيونية يعمل بها المئات.
وبالتالي لا يمكن تحميل المؤسسات الصحفية والإعلامية وحدها مسؤولية التوعية في ظل هذا الانتشار اللا محدود للإعلام المجتمعي، وصعوبة منافسة كل هذا الكم من الصفحات والقنوات التي يحقق أصحابها أرباحًا تمكّنهم من الاستمرارية والتطوير والانتشار المتزايد، ناهيك عن «دكاكين السيو» وهي مواقع مجهولة الهوية ينشئها أفراد بغرض تحقيق أرباح من إعلانات جوجل، بإعادة نشر مئات الموضوعات «المسروقة» من مصادرها الأصلية وتغيير صياغتها لتنافس المواقع المؤسسات الكبرى على محركات البحث.
«الإنفلونسرز، واليوتيوبرز، والبلوجرز»، أصبحوا هم الأداة الإعلامية الجديدة التي تؤثر على العقل الجمعي للجمهور، وتشكل وعيه، وتدفعه إلى اتخاذ قرارات تمس حياته اليومية، وأصبحت الشركات المتوسطة والصغيرة تلجأ اليهم للإعلان المباشر، من خلال استغلال جمهور هؤلاء لترشيح سلعة أو منتج، وأحيانًا يبتكرون محتوى إعلاني مغلف بجانب إنساني، كتقديم موبايل هدية لأحد البسطاء في الشارع، أو توزيع ملابس أو وجبات لمطاعم شهيرة...وغيرها.
كما أن الباب أصبح مفتوحًا لكل من يمتلك -أو لا يمتلك- موهبة في تحقيق حلمه والدخول إلى عالم الشهرة والمال والانتشار السريع، فأغنية لمطرب مهرجانات تتجاوز مشاهداتها عشرات الملايين في أيام معدودة ويحلق أصحابها بين عواصم العالم ويتدافع الجمهور لحضور حفلاتهم، أو سيدة تجلس داخل غرفة نومها تطهي الطعام وتغني وترقص فتحقق ملايين المشاهدات، أو أسرة تعرض تفاصيل حياتها اليومية «لايف» وينتظر الملايين كل يوم ماذا فعلوا؟.. ناموا.. استيقظوا.. أكلوا شربوا.؟.. كل هذا في حين يقاتل المئات من الصحفيين والإعلاميين للتأثير المحدود في هذا العالم الافتراضي المزدحم بالضوضاء والضجيج.
ورغم تداخل مسؤولية الحفاظ على الوعي والهوية بمختلف أنواعها، بين كثير من المؤسسات، إلا أن ما يهمنا الحديث عنه هنا هو «وسائل الإعلام» التي أصبحت مطالبة بالتفكير في خلق استراتيجية جديدة لاستعادة تأثيرها مرة أخرى، والتسلّح بأدوات مختلفة تمكّنها من تحقيق رؤيتها ورسالتها، وتفرض قواعدها المهنية والأخلاقية على هذا السوق الافتراضي الكبير وتعيد تشكيله مرة أخرى بما يتوافق مع المعطيات الجديدة، والتحرر من التقليدية في إدارة المحتوى ومعالجته، وفتح شرايين لها داخل المجتمع يسمح بضخ الوعي ويضمن وصوله إلى كل المنصات والمناطق والفئات.
الاستراتيجية الجديدة يجب أن تبنى على رؤية مختلفة، تتخلى فيها المؤسسات عن «المركزية» في نشر المحتوى، وفتح شرايين لها داخل الإعلام المجتمعي تسري من خلاله، باستيعاب المواهب التي ترى فيها القدرة على التعلم والتأثير، وتوفير الدعم اللوجيستي اللازم لها، وتدريبها، بحيث تبني شبكة قوية من القنوات الإخبارية على المنصات المختلفة، وبموجب تعاقدات تضمن للمؤسسة نسبة من أرباح هذه القنوات بعد تحقيق أهدافها واكتمال انتشارها.
كما يجب أن تحول المؤسسات، العاملين بها ممن لديهم القدرة والخبرة، إلى مشروعات مستقلة بذاتها تتبع المؤسسة إداريًا وفنيًا، لكي يصبح كل صحفي مشروع قائم بذاته تستثمر فيه، وتدعمه ليطوّر من نفسه ويصبح له جمهوره الخاص به، بما يعود على الطرفين بالاستفادة المادية وزيادة الانتشار، ويتيح فرصة أكبر لإيصال الرسالة والتأثير. وتتناغم تلك المشروعات وتعمل في سياقات متنوعة برؤية واحدة وهدف إعلامي واحد، وتدعم قوة الحملات والأهداف الاستراتيجية المرحلية التي ترغب المؤسسة في تحقيقها.
هذه الرؤية يمكن أن تعمل بها مؤسسات أخرى ثقافية وتعليمية، تؤسس لمشاريع «مطربين وممثلين وشعراء وغيرها من المواهب»، وتوفر لهم الدعم لتحقيق أحلامهم والوصول إلى الجمهور، وتضمن موردًا جديدًا يساعد في تطوير باقي النشاطات التي تختص بها، وتضمن أيضًا الحفاظ على الهوية الثقافية والذوق العام وتخلق حالة من الإبداع لمواجهة القبح والسطحية في هذا الفضاء الشاسع.
التخلي عن التقليدية والمركزية، والتفكير في سبل جديدة لتحقيق رسالة الإعلام، أصبح ضروريًا وعاجلًا، ليس للوصول فقط ولكن لإحداث تأثير، وتمهيد الطريق أمام القارئ لاستقبال المعلومات الدقيقة والصحيحة من مصادرها الأصلية، حتى يتمكّن من اتخاذ قرار صائب، وملء الفراغ لطرد المغلوط والمبتذل، وتحصين وعي الجمهور والارتقاء بفكره وذوقه وروحه.
وللحديث بقية..