لم أكن فى حاجة إلى انتظار تحريات الشرطة وتحقيقات النيابة لأعرف أن هناك أسباباً غير طبيعية وراء العثور على جثة شقيق مطرب مشهور طافية فوق مياه ترعة المريوطية بمنطقة البدرشين، وعندما توصلت مواقع الصحف إلى أن الغريق الشاب كان قد تم إيداعه فى مكان لتأهيل المدمنين قبل يوم واحد من العثور على جثته طافية فوق المياه، اكتملت عندى كل ملابسات الحكاية، بسبب تطابقها مع تجارب مماثلة لم تأخذ حظها من المتابعة والانتشار لأن ضحاياها ليسوا أشقاء مطربين مشهورين، ولأن أسر هؤلاء الضحايا فى الغالب أحرص على «ستر» الفضيحة ودفن الجريمة من الذين تسببوا فيها.
إن أخطر ما يعانيه مجتمعنا فى التعامل مع ظاهرة الإدمان هو الاعتقاد السائد عند غالبية الأسر بأن الإدمان ليس مرضاً مثل كل الأمراض، ولكنه انحراف أخلاقى أو فضيحة ينبغى التستر عليها، وهناك أسر كثيرة لجأت إلى مداراة إدمان أحد أفرادها حتى انتهى الأمر بكارثة انتحار أو وفاة غامضة، كما أن هناك أسراً كثيرة فجعتها الأقدار فى أبنائها واكتفت بدفنهم فى صمت مطبق، ورفضت تحريك دعاوى قضائية ضد أماكن الاحتجاز التى ذهبوا إليها قسراً أو طوعاً، وعادوا منها جثثاً هامدة!
وحالة الغضب التى انتابت المطرب الشهير بعد نشر بعض ملابسات فجيعة وفاة شقيقه غرقاً فى الترعة، إثر هروبه من مكان احتجاز غير مرخص، لا يمكن فهمها إلا فى سياق التواطؤ الاجتماعى على هذه الكارثة التى استفحلت خلال السنوات الأخيرة: كارثة انتشار الإدمان بين كل طبقات المجتمع، وخصوصاً الطبقات الدنيا من الشعب، والشرائح المترفة من الطبقة المتوسطة والطبقة العليا. ورغم اعتراف كل الأجهزة الرسمية وغير الرسمية بخطورة ظاهرة الإدمان وتداعياتها المدمرة للأمان الأسرى، فقد ظلت الغالبية العظمى من الأسر المبتلاة تفضّل «الستر» على التعامل العلمى الصحيح مع أبنائها المدمنين.
ولهذا لم أندهش أبداً وأنا أطالع ما كتبه المطرب الشهير على صفحته ونشرته الصحف والمواقع أيضاً، حيث ناشد الرئيس والمجلس الأعلى للصحافة والإعلام التدخل لمحاسبة الصحفيين «الذين استباحوا حياة أسرته الشخصية بشكل مسىء ومتدنٍّ ولم يراعوا حرمة الميت ولا مشاعر أب وأم فجعتهما الأقدار فى ابنهما الشاب»، وهو أيضاً يخاطب الصحفيين بقوله: «اتقوا الله فى مهنتكم وفى أقوالكم وأفعالكم.. الترند لن ينفعكم عندما نختصمكم أمام الله فيما كتبتموه عن شقيقى رحمه الله. اذكروا محاسن موتاكم يا مؤمنين»!
ولأن الصحفيين أصبحوا هدفاً سهلاً للجميع، فقد اكتفى المطرب الشهير بصبّ جامّ غضبه عليهم، ولكنه لم يجرؤ إطلاقاً على فعل الشىء نفسه مع جهات التحقيق فى الواقعة التى شملت الشرطة والنيابة ووزارة الصحة ووزارة التضامن الاجتماعى، رغم أن هذه الجهات هى التى تحركت بأقصى سرعة لممارسة اختصاصها الأصيل فى الوقوف على ملابسات غرق شاب من أسرة ميسورة فى ترعة المريوطية، وقد تبين لها من الوهلة الأولى أن هناك شيئاً غير طبيعى يحتم عليها الواجب اكتشافه، وكانت هذه الجهات هى التى أبلغت الصحافة والإعلام بأن الشاب الغريق هو فلان الفلانى شقيق المطرب الشهير، وأنه كان مدمناً، وأن أسرته هى التى أخذته للإيداع فى مكان لعلاج المدمنين، اتضح أنه غير مرخص، ولا يخضع لأى إشراف طبى، وكل الذين يعملون به هم من المدمنين المتعافين، الذين قرروا استثمار معرفتهم بأبعاد ظاهرة الإدمان والقوانين المتعسفة المنظمة لها فى افتتاح مكان يقع داخل الزراعات بالبدرشين، يقوم العلاج فيه على مجرد احتجاز الضحايا وتعريضهم لأبشع صنوف التكدير والتعذيب حتى يتخلصوا -مع مرور الوقت- من عادة تعاطى المخدرات.
إن التجارب المماثلة -وهى كثيرة للأسف- تشير إلى أن أهالى المدمنين المتوفين فى ظروف غامضة يفضّلون دائماً دفن موتاهم دون ضجة، ودون أى تحقيقات أو تحريات قد تعرّضهم هم أنفسهم للمساءلة لأنهم سلّموا أبناءهم قسراً إلى أماكن احتجاز لا علاقة لها بعلاج الإدمان. ورغم تعاطفى الشديد مع هؤلاء الأهالى المكلومين، فإن ترك الأمور لما يفضّله هذا أو ذاك، وخوف الأهالى الدائم من مواجهة هذا الابتلاء بشجاعة سوف يزيد الأمر سوءاً، وسوف يؤدى إلى كوارث وفواجع أخرى، ولن نتقدم خطوة واحدة فى مواجهة هذه الظاهرة الكارثة.
إن أول خطوة فى طريق المواجهة العلمية تبدأ من الاعتراف بأن لدينا عواراً قانونياً يفاقم من ظاهرة الإدمان، ومن ظاهرة انتشار سلخانات التعذيب، ففى كل دول العالم يعتمد علاج الإدمان على مرحلتين لا تُغنى إحداهما عن الأخرى، المرحلة الأولى تتم فى مكان طبى مرخص من الجهات الصحية المختصة، يشرف عليه أطباء وطاقم تمريض وأفراد أمن، ويقوم العلاج فيه على الأدوية المسكّنة للألم وتخفيف أعراض الانسحاب، وتتراوح مدة إقامة المريض فيه من 5 أيام إلى أسبوعين.
المرحلة الثانية هى التأهيل الاجتماعى للمدمن الذى تتراوح مدته من 3 شهور إلى سنة ويتم فى مكان آمن يوفر نظام حياة اجتماعية منضبطة، ويتضمن أنشطة ثقافية ودينية ورياضية وفنية، ومعظم دول العالم تُطلق على هذه الأماكن مسمى «بيوت منتصف الطريق» وتسمح بترخيصها للحاصلين على دورات نظرية وعملية فى إدارتها حتى لو كانوا من غير الأطباء، أو كانوا من المدمنين المتعافين، وقد استقرت كل الدراسات الميدانية على أن هذه المرحلة من العلاج لا غنى عنها إطلاقاً، وأنها تحقق الامتناع الكامل عن التعاطى لأكثر من 65٪ من مرضى الإدمان، بينما لا يحقق العلاج الطبى وحده غير 2٪ فقط من الامتناع الكامل بين المتعاطين.
والمشكلة الحقيقية فى مصر أننا حتى الآن لا نعترف بـ«بيوت منتصف الطريق»، كما أننا ما زلنا نشترط بقبول علاج المدمنين أن يأتوا بإرادتهم الكاملة طلباً للعلاج، وألا تكون هناك شبهة قسر أو إجبار من ذويهم، والمصيبة الكبرى أن «المدمن» لا يعترف بإدمانه أبداً، ولا يطلب العلاج، ولا يستجيب لرجاء أهله إلا بعد أن يدمر نفسه وأهله تماماً، وتنسدّ فى وجهه كل وسائل تدبير ثمن الجرعة، ويتحول إلى حطام كامل وإلى مباءة يهرب منها الجميع، وترفض كل الأماكن المرخصة قبوله قبل علاجه من حزمة أمراض أخرى، من بينها عادة أمراض الجرب والإيدز والالتهاب الكبدى والفشل الكلوى.
وفى معظم هذه الحالات لا يجد الأهل أمامهم غير إيداع مرضاهم المدمنين فى أماكن غير مرخصة، تعمل خارج كل القوانين، وتمارس أبشع صنوف التعذيب مع هؤلاء المساكين.. وعندما يموتون أثناء الهرب أو تحت التعذيب يكتفى الأهل بدفنهم وهم لا يطلبون غير «الستر».. وغير إسدال ستار كثيف على تجربة مفجعة عاشوا خلالها أهوالاً لا تطاق، بسبب قوانين وضعها حفنة أشخاص يملكون مؤسسات فخمة لعلاج الإدمان، لا يقدر على تكاليفها الباهظة غير فئة صغيرة، والمدهش أن هذه الأماكن الفخمة تقبل المرضى الميسورين فى كل الأحوال، سواء جاءوا قسراً أو بمحض إرادتهم.
أما الأماكن الأخرى المرخصة التى تتيح علاجاً ممتازاً بأسعار فى متناول كل شرائح المجتمع، فهى تخضع دائماً لمناكفة مفتشى الصحة، للتأكد من أن كل المقيمين بها جاءوا للعلاج بإرادتهم، ودائماً وأبداً يعثرون على «مدمن» يصرخ طالباً الخروج، فيسارعون إلى تحرير محاضر تنتهى بإغلاق الأماكن المرخصة أو تغريم أصحابها.. أما سلخانات التعذيب غير المرخصة، فوجودها سيظل باباً مفتوحاً على مصراعيه لتقاسم الأموال بين المجرمين الذين يقومون على إدارتها، وبعض المفتشين المكلفين بضبطها.
ولعل الوفاة المفجعة لشقيق المطرب الشهير تفتح الباب مرة أخرى لمداولات جديدة حول قوانين علاج المدمنين فى مصر، ترحمنا من تفشى ظاهرة الإدمان، وتشجع الأسر المكلومة على إيداع أبنائها فى مراكز علاج ومراكز تأهيل اجتماعى مرخصة، تعمل وفق ضوابط علمية وأخلاقية، بدلاً من الوقوع الدائم تحت رحمة ضباع فى منتهى الخسة، يستغلون العوار القانونى وفواجع الناس فى تحقيق ثراء فاحش، ويتسببون فى مزيد من تفشى الإدمان ومزيد من تبديد أبهى أعمار شبابنا فى مستنقع الخراب والتدمير.