فى رواية «ديفيد كوبرفيلد» للكاتب الإنجليزى الشهير تشارلز ديكنز، قال «ميكوبر» (إحدى شخصيات الرواية)، وكان دائماً مديوناً بشكل دمر حياته فى النهاية، لبطل القصة الشاب «ديفيد»: «إذا كان دخلك السنوى 20 جنيهاً وأنفقت 19، فستعيش سعيداً، وإذا كان دخلك عشرين جنيهاً وأنفقت 21، فستعيش فى بؤس دائم». النصيحة التى اعتبرها المستثمر الأمريكى «تيم ماكلاين» نقطة تحول فى حياته.. يجب أن نعيد قراءتها اليوم، لعلها تعيد التوازن المفقود لدى كثير منا. أنا وأنت مدينان. العالم كله.. حكومات أفراد ترزح تحت عبء ديون هائلة.. وحجم الدين العام فى مصر يقدر بنحو 1.7 تريليون جنيه، مما يعنى أن نصيب كل فرد فى الـ90 مليوناً من هذا الدين يُقدر بنحو 20 ألف جنيه، مضاف إليها الديون الخاصة لكل مواطن، قرض سيارة أو شقة أو بطاقة ائتمان.. إلخ، ولأن الجميع يعانى من الديون، فالكل يعيش فى نكد وغم. الاقتراض لضرورات شر لا بد منه، لكن كثيراً من الناس لا يقترض لضرورة، ولكن ليحقق معادلة مستحيلة، وهى أن يستهلك أكثر مما ينتج، أى ينفق أكثر مما يكسب.. والهدف هو تحقيق تطلعات وإشباع رغبات استهلاكية يمكن الاستغناء عنها، مثل قرض للاشتراك فى نادٍ رياضى أو لشراء جهاز محمول أو لدفع مصاريف مدرسة أعلى من معدل الدخل.
الأرقام تؤكد أن المصريين ينفقون أكثر مما ينبغى، والدليل على ذلك أن معدلات الادخار فى مصر لا تتجاوز فى المتوسط 7.2%، وهناك معدل شديد الضآلة إذا ما قورن بالمعدل العالمى البالغ نحو 22%. وهناك سُعار شديد لا تخطئه عين للاستهلاك، ويضع كل منا على كاهله ما ينوء بحمله، أملاً فى تحقيق وضع اجتماعى ومستوى معيشى أفضل لأولاده.. والنتيجة ضغط وسكر وتوتر دائم.
ويكبل كثير من الناس أنفسهم بالتزامات اجتماعية حان الوقت لإعادة النظر فيها. وكان المفكر الكبير الراحل الدكتور عبدالوهاب المسيرى، فى اللقاء اليتيم الذى جمعنى به قبل وفاته، أول من لفت نظرى إلى الجانب الخبيث لهذه الالتزامات، ومنها أعياد الميلاد التى وصفها بـ«الجريمة المنظمة».. وكتب عنها لاحقاً بالنص فى مذكراته «لقد تدهور الأمر تماماً مع حفيدى، الذى وقع ضحية الجريمة المنظمة التى تُسمى أعياد الميلاد، فإذا كان عدد زملائه فى الفصل ٢٥، هذا يعنى أنه يحضر ٢٥ عيد ميلاد، ويحضر ٢٥ لعبة لزملائه، وهم بدورهم يفعلون الشىء نفسه، وفى عيد ميلاده يصله عدد مخيف من اللعب، يغرق فيها تماماً!» وهذا بالقطع ليس ضرورياً. وكتب فى موضع آخر أن الاستهلاك أصبح «معبراً وحيداً ويتيماً عن الحب، مما جعل أعياد الميلاد والحب والأم مناسبات إنسانية للاستهلاكية تهلك الجميع، وتحوّلت إلى شكل من أشكال الجريمة المنظمة فظاهرها الرحمة وباطنها العذاب»، لا «المسيرى» ولا شخصى المتواضع لديه أى تحفّظ على الابتهاج بأعياد الميلاد وغيرها وتبادل الهدايا، لكن التحفّظ هو فقط أن نعيش فوق قدراتنا ونقضى كل حياتنا فى محاولات فاشلة لـ«تحويل الدائرة لمستطيل»، كما يقول المثل الإنجليزى، فى إشارة إلى تحقيق المستحيل.. أما الممكن فهو أن تحاول جاداً السيطرة على نفقاتك.. والتخلص من ديونك.