على أعتاب الأربعين أحبو. نعم أحبو! من قال أننا تعلمنا في هذه الدنيا سيرا، أو عرفنا لدروبها خارطة؟ متى أصبحنا "كبارا" أو من أسمانا كذلك ومازلنا نتشبث بأطراف جلاليب أبائنا وأمهاتنا؟ نقتفي آثار من رحل منهم ونتنسم أنفاس من بقى. من أسمانا "كباراً" ومازال يلهو بداخلنا طفل صغير، بنفس الشقاوة، والحيرة، وأحيانا - حين يحالفنا الحظ - بنفس الشغف!
على أعتاب الأربعين، مازلت أسكن في رحاب بيتنا الأول، ولا أتمنى منه رحيلا، أتلحف رحيق أبي، وتروي قلبي ضحكة أمي، تبث دقات عصاها الهادئة على الأرض في روحي قوةً وحياة. أتونس بناس شارعنا الطيبين، وذكريات الطفولة تحتضني من كل جانب. أما رفاق الرحلة والدرب فأغلبهم قد تأبطوا حقائبهم، وارتدوا ثوب الترحال. حملوا همومهم، وأحلامهم، ومستقبل أولادهم وضحكاتهم، وهاجروا، إما إلى الخليج، أو إلى الغرب، أو حتى إلى السادس من أكتوبر والتجمع الخامس. نلتقيهم حين تجود الظروف شهريا، أو سنويا، فنتبادل ضحكاتٍ، ونبث همومًا. نغتسل من تعب الايام في دفء اللقاء، ونفترق ونحت نشد على أيدي بعضنا البعض، على أمل لقاء قريب، ممتنين لصداقة لم تهرم، وسندا منيعًا لم تفتته ضربات الحياة. بعضهم قد رحلت روحه التي نعرفها وإن بقي الجسد قريبا، فأصبح اللقاء فاترا باردا لا طائل منه. وبعضهم قد أخذ قرارا مفاجئاً منفرداً صريحاً بلملمة الأوراق، وتمزيق الدفاتر وحرق جسور الرجعة والخطو خارج حياتنا في صمت مربك. أما أقربهم وأغلاهم فقد رحلت إلى السماء ليبرأ الجسد المنهك أخيراً من آلامه، ويرتاح عند ربه الأعلى، وتاركةً إيانا نبكيها في لوعة.
على أعتاب الأربعين، تحققت أحلاماً ، وبكينا حطام أخرى. مازلنا نلاحق شغفا من بعد شغف. نتقد حماسًا تارة، وننطفيء يأساً وكسلاً تارة أخرى. لم نهرم بما يكفي للاستسلام، ولا ينصفنا طوال الوقت حماس البدايات وما يضخه في العروق من اتقاد.
على أعتاب الأربعين، لم أعد أكتب كثيرا. لا أدري إن كنت قد فقدت شغفي بالكتابة، أم قد هدأت لهفتي للحياة! ما أعرفه بشكل مؤكد هو أنه لم يعد كل شيء مبهراً كما كان في عهده الأول. لم تعد كل الأحداث تهزنا أو تحركنا أو تنجح في دفعنا لنفض غبار التأمل وتحريك سواكننا للكتابة.
على أعتاب الاربعين، أصبحت احب قهوتي أكثر، واحب غرفتي أكثر، وأعشق الصمت أكثر، واقدر عزلتي احيانا عن الناس أكثر، واعشق لمة العائلة أكثر. أصبحت أعرف أن كوب شاي مع أمي لا تعادله الدنيا بما فيها، وأن يومًا أقضيه مع ضحكات أحبائي الصغار هو شفاء للروح من صخب الحياة واللهاث مع الاصدقاء أو المنازعة في دوامات العمل.
على أعتاب الاربعين، تأخذني الدهشة كثيرا: مَن هؤلاء المراهقين والشباب اللذين كانوا منذ سويعات يتعلقون برقابنا، ويبتزوننا عاطفيا لشراء "الآيس كريم" أو أخذهم في نزهة؟! متى وكيف فاقونا طولا وأصبحنا بالنسبة لهم "قدامًا"، لا نواكب العصر! نحتاج إليهم أحيانا في استشارة إلكترونية أو نرجوهم لترك هواتفهم المحمولة والتحدث إلينا!
على أعتاب الأربعين، ودعنا حبيبًا من بعد حبيب، وقريبا من بعد قريب. رأينا من أصدقائنا ومن غيرهم من يسقط فجأة. أدركنا أن الحياة لا تستحق، وما هي إلا بوابة العبور للعالم الآخر، فرجونا الله أن يوفقنا لبناء بيوت العيش الأبدي .
على أعتاب الأربعين، لم أعد أطيق جدالا ولا عنادا. أصبحت راحتي بالي أهم كثيرا من إثبات وجهة نظري. خاصة حين أوقن بأن لا سبيل لإقناع الطرف الآخر، ولا سبيل لتغيير رأيي، فلم إهدار الجهد في مناقشات عقيمة لا طائل منها ولا طاقة لي بها!
على أعتاب الأربعين، مازلنا صغارًا، نكره أن ينادينا أحد بألقاب تنافي ذلك، فقط تخلينا عن رهافة مشاعر العشرينات، وفوران غضب الثلاثينات، أدركنا أن ليس كل شيء يستحق ردود الأفعال، وارتدينا ثوب الهدوء، وإن لم نهدأ!
على أعتاب الأربعين، مازلت أمتطي صهوة دراجتي، وأركب الأرجوحة مع الصغار، وأتقافز فرحًا مع موج البحر. تنعش قلبي ملابس العيد، وتجدد روحي رحلة، أونزهة مع الأصدقاء، أو كعكة عيد ميلاد مفاجة. مازلنا نأكل الشوكولاتة من خلف ظهر الصغار ونستمتع بال"شيبسي" وإن عددنا لهم أضراره.
على أعتاب الأربعين، يٌنتظر منا أن ندعم ونحن بحاجة إلى من يدعمنا! نتشبث بآمالنا تارة وتهزمنا آلامنا تارة. نتوق - وإن اضطررنا للظهور كأقوياء- إلى تربيتة على الكتف، أو لمسة حانية، أو حلول لمشكلات، أو تفسير ل"لوغاريتمات" الحياة.
على أعتاب الأربعين نعيش أطفالا في أجساد بالغين ، مازلنا صغارا بين الكبار، وإن رآنا الصغار "كبارا"...على أعتاب الأربعين، مازلنا نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا....!