يتصور البعض أن ظروف النبى وصحبه فى المدينة كانت أسعد حالاً عند مقارنتها بالظروف فى مكة، وظنى أن الأمر عكس ذلك.
عدو محمد، صلى الله عليه وسلم، فى مكة كان واحداً، وهو عرب مكة، لكن الأمر كان مختلفاً فى المدينة، حيث تكتلت ثلاثة أحزاب ضده؛ أولها اليهود، وثانيها المنافقون، وثالثها عرب مكة الذين حاولوا مطاردته بعد الهجرة.
فى مكة عاش النبى مع الصحبة القليلة من المؤمنين به وهم يعانون من تربص عرب مكة بهم، ومحاولاتهم المتواصلة محاصرتهم ومنع دعوتهم من التمدد، ربما استفاد النبى من نوع من الحماية العائلية، لكنه بحال افتقد الغطاء القبلى حين نابذته قريش العداء.
الظرف فى المدينة كان مختلفاً، فقد انحازت قبيلتا الأوس والخزرج إلى النبى واحتضنوا دعوته وآووه ونصروه، ومنحوه الغطاء القبلى الذى لم يجده فى مكة.
فى مكة كانت الوثنية هى الغالبة، فالعرب فى أغلبهم كانوا يعبدون الأصنام، عدد قليل منهم فقط كان يدين بالمسيحية أو الحنيفية، لكن الوضع كان مختلفاً أشد الاختلاف فى المدينة، فقد كان بداخلها تجمع يهودى ضخم (بنو قريظة - بنو النضير - بنو قينقاع)، يكاد يسيطر -من وراء حجاب- على أمر المدينة، عبر اللعب على أوتار الخلاف بين الأوس والخزرج.
فى المدينة أيضاً ظهر حزب لم يكن بالقليل من المنافقين الذين أظهروا الإيمان بالإسلام، لكن باطنهم كان يشهد بالكفر والجحود وإنكار الرسالة.
لم يترك عرب مكة النبى، صلى الله عليه وسلم، فى حاله، بل حاولوا غزوه فى المدينة، وتواطأوا على تأليب اليهود عليه، لكنه تمكن من الصمود فى وجه المتربصين به.
ظروف النبى والصحبة المؤمنة فى المدينة كانت أشد تعقيداً، لكن لم يكن هناك بد من الهجرة إليها لتوفير مجال حيوى جديد للدعوة، بعد أن تمكن عرب مكة من حصاره، والحيلولة بينه، صلى الله عليه وسلم، وبين تبليغ رسالة ربه، وكانت النتيجة توقف عدد المؤمنين بالرسالة عند عدد قليل من المكيين، أغلبهم من المستضعفين.
فبمراجعة عدد من شارك من المكيين فى غزوة بدر سنجد أنهم لم يتجاوزوا السبعين، ممن آمنوا بالإسلام خلال 13 عاماً من الدعوة، فى حين كان عدد المشاركين من أهل المدينة يزيد على 230 رجلاً، آمن أغلبهم بالنبى بعد أيام قليلة من هجرته.
فالمدينة مثّلت المجال الحيوى الأنسب للدعوة، لذا قرر النبى الانتقال إليها رغم علمه بما سيواجهه فيها من تعقيدات وعداءات ومحن ومواجهات أيده الله تعالى فيها بنصره.
وبسبب اختلاف الظروف بين أوضاع الدعوة فى كل من مكة والمدينة، ظن البعض أن ثمة اختلافاً بين توجهات القرآن المكى والقرآن المدنى، ووصف بعض المرجفين هذا الاختلاف بالتناقض. وفى مواجهة هذا الإرجاف أجهد فقهاء التراث -وكذا المعاصرون- أنفسهم فى إنشاء باب الناسخ والمنسوخ والدفاع عنه، لحل هذه الإشكالية، فقالوا إن بعض الآيات التى نزلت فى المدينة نسخت أحكام آيات نزلت فى مكة، وأخذوا يعددون أنواع النسخ، ما بين نسخ الحكم واللفظ، ونسخ الحكم وبقاء اللفظ، ونسخ اللفظ وبقاء الحكم.
وظنى -والله أعلم- أن المسألة أبسط من ذلك، فالقرآن المكى يتكامل مع القرآن المدنى فى إيجاد مجموعة البدائل التى تعبر عن اختلاف الظروف والسياقات، فالنص القرآنى غير منفصل عن الواقع، بل يتداعى له، والواقع المتغير جزء من فهمه وأساس تأويله.