محمود درويش.. في حضرة الغياب
محمود درويش
«على هذه الأرض ما يستحق الحياة، على هذه الأرض سيدة الحياة، أمُ البدايات أمُ النهايات، كانت تسمى فِلسطين، صارت تسمى فَلسطين، سيدتي أستحق لأنكِ سيدتي، أستحق الحياة»، هذه كلمات شاعر الثورة الفلسطينية محمود درويش، الذي ولد عام 1941 في قرية «البروة» قرب ساحل «عكا» في فلسطين، ثم انتقل مع عائلته إلى لبنان بعد نكبة عام 48، لكن ذلك الطفل الفلسطيني لم يطق وعائلته حياة اللجوء، فعادت الأسرة خِفية إلى فلسطين، بعد سنتين، ليجدوا قريتهم محتلة وباتت غريبة عنهم حتى إن الشوارع أصبحت بأسماء عبرية.
لاحقًا، حطّ الشاعر الفلسطيني الرحال في قرية «دير الأسد» مع أسرته كلاجئين، وهناك عانت العائلة للحصول على بطاقات إقامةٍ باعتبارهم غير شرعيين، رغم أنَّهم على أرضهم، وفي بلادهم، وعندما أصبح درويش يافعًا تعرض للاعتقال مرات عديدة، بحجة القيام بنشاطات معادية للاحتلال الإسرائيلي، وبسبب آرائه السياسية ودفاعه عن بلده وموطنه وأرضه.
محطات سفر
تنقّل بين عواصم عربية وأوروبية عديدة خلال حياته، وكل محطةٍ تركت بصمتها على شخصه، وعلى شِعره، وكانت موسكو محطة درويش الأولى، حيث سافر إليها بغرض الدراسة، ثم تنقل بعدها بين محطات عديدة، أهمها «القاهرة، وبيروت، وتونس، وباريس»، قبل أن يعود ليعيش أواخر حياته في العاصمة الأردنية عمان، ومدينة رام الله الفلسطينية، وكانت القاهرة من أكثر العواصم المحببة لقلب دروش، الذي وجد نفسه فيها بين عمالقة الأدب والشعر العربي «تحدث إليها كما يتحدث ناي إلى وتر خائف في الكمان، كأنكما شاهدان على ما يعد غد لكما، وانتظرها، ولمّع لها ليلها خاتمًا، وانتظرها، إلى أن يقول لك الليل: لم يبق غيركما في الوجود، فخذها، برفق، إلى موتك المشتهى، وانتظرها!».
أما بيروت، فكانت نقطة تحول في حياة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، فمع انتقاله إلى هناك، اندلعت الحرب الأهلية، وكانت الكراهية والقسوة والدم عنوان تلك المرحلة، حصدت الحرب أرواحَ بعض المقربين من محمود درويش مثل غسان كنفاني، وكان من الطبيعي أن تصبغ تلك المرحلة شعر درويش بصبغة جديدة، تحول معها الشاعر الفلسطيني، من شعر العاشق الرومانسي إلى شعر الرثاء والأوطان.
بعدها غادر درويش لبنان، وانتهى به المطاف في تونس، ليغادرها بعد حين إلى باريس، «حافظي على نفسك يا تونس، سنلتقي غدًا، على أرض أختك فلسطين، هل نسينا شيئا وراءنا، نعم، نسينا، تلفت القلب، وتركنا فيكِ خير ما فينا، تركنا فيكِ شهداءنا الذين نوصيكِ بهم خيرًا».
الحنين إلى الأرض
في أحد لقاءاته القديمة، وفق تقرير تلفزيوني أوردته «سكاي نيوز» في ذكرى رحيله، يقول درويش إنَّ باريس شكّلت ولادته الشعرية الحقيقية، حيث كان يرى في جمال باريس، فرصة للتأمل والنظر إلى العالم، والأشياء عن بعد.
لـ محمود درويش أكثر من 31 ديوان شعر، وأكثر ما يميز شعره الوطنية، وفي الوقت نفسه الرومانسية والحنين الدائم إلى الأرض، ساهم في تطوير الشعر العربي الحديث، وكانت له طقوس خاصة في كتابة الشعر، فكان يرتدي أجمل ثيابه، كما لو أنه ذاهب في موعدٍ رسمي، ويجلس خلف الطاولة ليكتب الشعر.
أما عن تفاصيل حياته الخاصة، فقد عُرف عن محمود درويش ارتباطه بالقهوة، إذ كان يصنعها بنفسه لضيوفه، ويتفنن في ذلك، أما تسلية درويش فكانت لعبة طاولة الزهر، التي كانت تحوله إلى طفلٍ صغير، حسب أصدقائه، فكان يصرخ أحيانًا، ويغتاظ أحيانًا أخرى عند اللعب.
لا شيء يعجبني
«يقول السائق العصبي، ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا للنزول، فيصرخون، نريد ما بعد المحطة.. انطلق، أما أنا، فأقول: أنزلني هنا، أنا مثلهم، لا شيء يعجبني، ولكني، تعبت من السفر».. هل كان محمود درويش متذمرًا؟ المعروف عنه أنَّه بحسب نقاشاته مع أصدقائه تعب من رحلة السفر الطويلة، فذلك الفتى الفلسطيني غادر قرية البروة حاملًا معه أحلام الطفل البريء، بالعودة إلى قريته والاستيقاظ على رائحة خبز «التنور»، لكن القضية التي حملها من خلال شعره واجهت انتكاسات متتالية.
في النهاية لم يعد قلب محمود درويش المثقل بأوجاع الاحتلال يحتمل الصمود، وأصبح قنبلة موقوتة، قد تنفجر بأي لحظة نتيجة توسع في أحد شرايينه، توفي الشاعر الفلسطيني في الولايات المتحدة الأمريكية في 9 أغسطس عام 2008 بعد خضوعه لعملية قلب مفتوح، وقد وارى جثمانه الثرى في مدينة رام الله.. محمود درويش تحت الأرض لكن كلماته لا تزال فوقها، كلمات لن تموت، إذ سيبقى صداها يتردد عبر الأجيال.