مكتبات الأديرة.. سراديب المعرفة والتاريخ في الصحراء
«الوطن» تواصل رحلة إعادة اكتشاف التراث القبطي (الحلقة الأخيرة)
المكتبة البابوية بدير الأنبا بيشوى فى وادى النطرون
تزدان مصر بالحقبة القبطية وسط كل حقبات التاريخ التي تعاقبت على أرضها، وصارت عبر العصور الكنيسة ومكتباتها المنتشرة في الأديرة صروحا شامخة بالمعرفة وسط رمال الصحراء.
نجت تلك المكتبات من الغزاة والطامعين والعابثين على مدى قرون من الزمن لتحفظ ذاكرة التاريخ المصري والمسيحي بما تحتويه من مخطوطات ووثائق تأسر ألباب المتجولين داخلها والمنقبين في محتوياتها، حتى يتوهم المَرْءُ أنه داخل سراديب للتاريخ في الصحراء وحاويات لكنوز التراث، حرسها أصحاب الجلاليب السوداء المسمون «رهبانا».
وصلنا المحطة الأخيرة في رحلتنا بـ«دار النسك»، المعروفة «بوادي النطرون»، متجولين بين مكتبات الأديرة في براري مصر التي ضمت بين جنباتها شتى أنواع المعرفة الإنسانية، فعلى رفوفها رص إنجيل «محرم»، ووثيقة ممهورة بخاتم الرسول محمد، ووصفة طبية مطموسة لـ«أبوقراط».
مكتبات تضرب بجذورها في أعماق التاريخ الإنساني، كان أخرها «المكتبة البابوية المركزية»، الصرح الأكبر والأضخم لدوائر المعرفة القبطية، التي شيدت على أرض وطأتها قبل ألفي عام أقدام المسيح وأمه العذراء مريم.
رحلة استظلينا خلالها بتاريخ عظيم للمصريين بعيدا عن الدين، مازال في حاجة إلى من يلقي الضوء على هذا الإرث الثقافي العظيم ويظهره للنور، ربما استطعنا أن نعيد الاعتبار لهذا الجانب المضئ من تاريخنا وثقافتنا.
صروح تضم مخطوطات نادرة وكتباً عتيقة
تواصلت رحلتنا على بساط صحراء وادى النطرون، ميزان القلوب ودار النسك، المعروفة قديماً بـ«شيهيت» أو «الإسقيط»، التى تقع على الأطراف الشمالية الشرقية للصحراء الغربية بمصر، كان دليلنا داخل الدير الأثرى الراهب القبطى صاحب الاسم المستعار «الأب كيرلس»، حكَّاء بارع مسكون بحب الحكى الذى يفصح ويجلى الحقائق ويبرز العوالم، حيث أخذ يواصل السرد الذى لم يخلُ من الإفاضة، مشيراً إلى أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية توسعت فى الحفاظ على تراثها بالأديرة، وعملت على إقامة المكتبات الكبيرة لها، عملاً بزيادة حركة البحث والدراسة للرهبان.
دير «السريان» يحتوي على 2000 مخطوطة نادرة
ففى حفل كبير فى مايو 2013م، احتفل دير السريان بوادى النطرون، الذى يرجع تاريخ تأسيسه للنصف الثانى من القرن الخامس الميلادى، بافتتاح مكتبة الدير والتى تضم عدداً من المخطوطات النادرة، ضمن 2000 مخطوطة قبطية وعربية وسريانية ويونانية وإثيوبية وبعض القصاصات باللغة اليونانية، وتشكل المخطوطات العربية الأكثرية فيها، تليها المخطوطات السريانية، بينما تمثل المخطوطات الإثيوبية العدد الأقل.
وتعتبر مجموعة مخطوطات دير السريان من أقدم وأهم المخطوطات التى تمتلكها الكنيسة القبطية على الإطلاق، حيث يرجع تاريخ أقدم مخطوط بها للقرن الخامس الميلادى، وهو مجلد على رق باللغة السريانية، ويعتبر أقدم مخطوط مسيحى فى العالم كله حتى الآن، وهو نصوص للكتاب المقدس من العهد الجديد، ويرجع تاريخه لعام 459م.
مصر تمتلك ثاني أقدم إنجيل على مستوى العالم باللغة القبطية البحيرية ودير «السريان» يستعد لتسجيل مخطوطاته بطريقة «برايل»
كما يعتبر مخطوط إنجيل القديس يوحنا باللغة القبطية البحيرية وهو مجلد على رق، هو أقدم مخطوط كامل باللغة القبطية لهذا الإنجيل بحوزة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويرجع تاريخه لنهاية القرن الحادى عشر الميلادى، كما يعتبر ثانى أقدم إنجيل قبطى على مستوى العالم باللغة القبطية البحيرية، حيث إن أقدم مخطوط للإنجيل القبطى البحيرى محفوظ الآن بمكتبة برهام بالولايات المتحدة الأمريكية، ويعرف بـ«كيرزون كاتينا» وتاريخه 889م.
كذلك تحتفظ المكتبة بأقدم مرجع بالكنيسة القبطية لتكريس الكنائس الجديدة، وهو مجلد على رق من القرن الثانى عشر، وهو باللغة القبطية البحيرية، ويوجد أيضاً مخطوط تفسير الأناجيل باللغة العربية وهو مجلد على ورق، ويرجع تاريخه لبداية القرن الثالث عشر الميلادى.
ويوجد أيضاً بالمكتبة مخطوطات نهرين التى تضم لغتين متقابلتين فى نفس الوجه لنفس النص، مثل القبطى - عربى، ومن أمثلة ذلك مخطوط المزامير المقدسة والتسابيح التى يتلوها الرهبان المتوحدون ويرجع للقرن الـ13 الميلادى، وهو من نسخ البابا غبريال الثالث، البطريرك الـ77 للكنيسة، وهو مجلد على ورق، وهذه النسخة لها أهمية خاصة فهى التى اعتمد عليها معهد الدراسات القبطية فى توثيق الصلوات والتسابيح، ونشر كتاب «صلوات السواعى» المعروف بـ«الأجبية»، وذلك فى الستينات من القرن الماضى. أيضاً المخطوطات التى تضم مواضيع ليتورجية، أى صلوات أو قراءات كنسية وتوجد نماذج كثيرة لذلك، أو مخطوطات بها شروحات بأكثر من لغة بهامش الصفحات مثل السريانية واليونانية والقبطية على كتابات باللغة العربية أو القبطية أو السريانية، وأيضاً مخطوطات كرشونية والمقصود بها أنها كتابة سريانية وتقرأ بالعربية وكل هذه التنوعات التى بالمخطوطات تسهم بشكل أو بآخر فى كثير من الأبحاث والدراسات اللغوية والأدبية.
وتمتلك المكتبة مجموعة رائعة من المخطوطات المزينة بالألوان والبعض منها مذهب، وذلك بفنون الزخارف النباتية والحيوانية وتزيين الحروف. كذلك فن الزخارف القبطية منها الدكة التى بأول الكتابة خاصة فى الكتب الكنسية، وفنون حرف اليوطا القبطى المضفور والمنقط والهندسى، مثال ذلك مخطوط العهد الجديد باللغة القبطية البحيرية، يرجع لبداية القرن الـ13 الميلادى، وهو مجلد على ورق، وقد قام بدراسة بعضها العالم الفرنسى الأب جوليس لوروا (1903 - 1979م).
صندوق حماية الثقافة البريطاني يسهم في ترميم وفهرسة 1000 مخطوطة بالمكتبة
وقد خضعت نحو ألف مخطوطة لعملية ترميم وفهرسة عبر مؤسسه «ليفانتين» بدعم من صندوق حماية الثقافة التابع للمجلس الثقافى البريطانى.
وتبلغ المجموعة القبطية من المخطوطات أكثر من 300 مخطوطة يعود تاريخها إلى نهاية القرن الـ11 حتى القرن الـ19، الأهم فيهم هو أقدم إنجيل كامل باللغة القبطية للقديس يوحنا، ويتألف من 134 صفحة.
وللحفاظ على أثرية تلك المخطوطات وخاصة اللاهوتية والطقسية وإن كانت تحتوى على معلومات خاطئة من وجهة نظر الكنيسة ورهبانها فإنه يتم إرفاق ورقة بتلك المخطوطة تشير إلى الخطأ وتصحيحه.
كما تحوى المكتبة أيضاً مجموعة من المطبوعات النادرة التى ترجع لأكثر من ثلاثمائة عام مضت وحتى بداية القرن العشرين، ويزيد عددها على الألف مجلد فى شتى العلوم والمعارف، ويوجد بها أيضاً مجموعة أرشيف الدير لأكثر من 250 سنة مضت بها مكاتبات لمشاهير الكنيسة فى القرنين الماضيين.
وأشرف على هذا المشروع الراهب القمص بيجول السريانى، مسئول مكتبة الدير السابق، الذى أشار إلى أن مشروع المكتبة يعود إلى نحو 17 سنة قبل افتتاحها فى 2013م، إذ أسند إلى الأنبا متاؤس، رئيس دير السريان، مسئولية هذه المكتبة فكانت أولى الخطوات التى تمت أن استدعى بعض الخبراء فى الترميم على فترات حتى تسنى لهم تأسيس مؤسسة خيرية لترميم التراث فى الشرق الأوسط كان الهدف منها عمل مشروع لترميم مخطوطات الدير.
وقال «بيجول»: «تم وضع خطط متوالية حتى وضعنا مشروعاً متكاملاً لترميم 500 مجلد هى أهم ما بالمكتبة وكذلك أهم مخطوطات فى الكنيسة القبطية ككل، ثم فكرنا أن نوفر بيئة ملائمة للمخطوطات تمنع التدهور فى حالتها لذلك تم البدء فى إنشاء المبنى الجديد فى مارس 2009م، وبمشاركة مؤسسة لفانتين المسئولة عن الترميم بالمكتبة وبمساعدة عدد من رجال الأعمال بمصر وإنجلترا، والمبنى يتكون من ثلاثة طوابق، فضلاً عن البدروم وبه مخزن الكتب والمجلدات وكذلك المركز الرقمى، والدور الأرضى وبه حجرة المطالعة الرقمية والميكروفيلم وقاعة محاضرات تتسع لعدد 60 فرداً مجهزة بأحدث الوسائل الإيضاحية ثم الطابق العلوى وهو عبارة عن مركز للترميم مجهز طبقاً للمواصفات القياسية العالمية من حيث الأجهزة والأثاث».
وبعد افتتاح مبنى المكتبة الجديد فى 2013م، بدأ الدير بعد ذلك مشروع التسجيل الرقمى للمخطوطات بالصورة ثم بالصوت لتسهيل المهام البحثية لذوى الاحتياجات الخاصة بمتابعة الصوت مع الصورة أو الصوت فقط، ومن المقرر أن يقوم الدير بتسجيل المخطوطات بطريقة «برايل» حتى يستطيع ذوو الإعاقة البصرية قراءة المخطوطات والبحث إذا لزم الأمر، كما تم عمل كتالوج رقمى لكل المجموعة لرفعه على الإنترنت لتسهيل مهمة الدارسين فى العالم من البحث فى كتالوجات المكتبة ثم المطالعة عن بُعد لبعض المخطوطات.
مكتبة دير «السريان» بها أقدم مخطوط مسيحي في العالم و«سانت كاترين» ثاني أهم مكتبة عالمية بعد «الفاتيكان»
والتراث القبطى ليس مقصوراً على الأقباط الأرثوذكس فقط، بل هناك العديد من المخطوطات النادرة التى تحتويها مكتبات الكنائس الكاثوليكية والإنجيلية فى مصر، إلى جانب دير سانت كاترين للروم الأرثوذكس، التى تعد مكتبته الثانية على مستوى العالم بعد مكتبة الفاتيكان من حيث أهمية مخطوطاتها؛ حيث تضم 4500 مخطوط من أهم المخطوطات فى العالم، بينها 600 مخطوط عربى، إلى جانب اللفائف المخطوطة باللغة العربية وعددها ألف لفافة، وكذلك 2319 مخطوطاً يونانياً، و284 مخطوطاً لاتينياً، بالإضافة إلى المخطوطات «السريانية، القبطية، الحبشية، السلافية الأمهرية، الأرمينية، الإنجليزية، الفرنسية والبولندية»، أقدمها يعود للقرن الرابع الميلادى، ومن أهم المخطوطات: التوراة اليونانية، المعروفة باسم (كودكس سيناتيكوس)، وهى نسخة خطية غير تامة من التوراة اليونانية كتبها أسبيوس، أسقف قيصرية عام 331م، والإنجيل السريانى، المعروف باسم (بالمبسست)، وهى نسخة خطية غير تامة من الإنجيل باللغة السريانية مكتوبة على رق غزال، قيل هى أقدم نسخة معروفة للإنجيل باللغة السريانية، ويوجد بالدير عدد من الفرمانات من الخلفاء المسلمين لتأمين أهل الكتاب، ونسخة من العهدة النبوية المختومة بختم الرسول محمد.
وإلى جانب ذلك أنشأت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لجنة فرعية بالمجمع المقدس الذى يعد أعلى هيئة كنسية باسم «لجنة التراث القبطى» التى كان يتولى مسئوليتها الأنبا أبيفانيوس، أسقف ورئيس دير أبومقار الراحل، (1954 - 2018م)، الذى كان يتولى مهمة رئاسة مكتبة المخطوطات بدير أبومقار قبل اختياره رئيساً للدير فى 2013م، وقُتل على يد اثنين من رهبان الدير فى 2018م.
«تواضروس» يتحدى ميراث الكنيسة في منع وتحريم الكتب ويعلن: «مفيش حظر والثقافة والمعرفة للجميع وعلينا الاختيار»
خرجنا من الدير الأثرى، إلا أن رحلتنا استمرت فى صحراء وادى النطرون، تلك الأرض التى مرت منها العائلة المقدسة وشهدت أول تجمع رهبانى فى القرن الرابع الميلادى، حيث تمسك أصحاب الجلاليب والعمائم السوداء بتلابيب الماضى، وأطلق البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، صرخته الأخيرة لإنقاذ التراث القبطى، عبر إنشاء ما سميت بـ«المكتبة المركزية البابوية»، هذا الصرح المقام على مساحة 4200 متر مربع، وقام بتصميمها مهندسون مصريون معماريون شباب، على الطراز المعمارى اليونانى الرومانى، مع بعض اللمسات القبطية.
المبنى الثقافى الضخم القابع فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون حُفرت على لوحته الرخامية آية سفر الرؤيا بالكتاب المقدس «طُوبَى لِلَّذِى يَقْرَأُ»، قبل أن يأخذنا بهوه الفسيح إلى أجنحته الخمسة وهى: «الكتاب المقدس، التاريخ، اللاهوت، الثقافة العامة، الدوريات»، والتى تشكل أكبر مكتبة قبطية فى العالم، حيث سعت لجمع التراث القبطى المتناثر فى المكتبات الصغيرة بالأديرة والكنائس لأول مرة ليجمع فى مكان واحد.
والمكتبة التى وضعت تحت الإشراف المباشر للبابا، تسعى الكنيسة لتكون بمثابة مركز للبحث والدراسة والتفكير، وهى أنشئت بتبرعات الكنائس والأديرة بالداخل والخارج، وساهم كثير من المتبرعين فى تقديم كتب كثيرة قديمة وجديدة وموسوعات بلغات متعددة كإهداء للمكتبة، منهم الكاتب الكبير الراحل محمد حسين هيكل، وعالمة الآثار اللبنانية الراحلة مى طراد، وقدم بعض رجال الكنيسة أجهزة تساعد فى أعمال المكتبة، وتمت الاستعانة بخبرات الأديرة فى إدارة المكتبات مثل «البراموس، أبومقار، ومارمينا العجايبى»، وقرر البابا تكوين مجلس أمناء وإدارة للمكتبة تحت رئاسته.
البابا: الكنيسة صارت عبر العصور خزانة أسرار الحضارة المصرية
وقال البابا عن المكتبة: «الكنيسة صارت عبر العصور خزانة أسرار الحضارة المصرية من آداب وعمارة ولغة وفنون وغيرها، ومن هنا كان تأسيس المكتبة البابوية المركزية لخدمة الأنشطة المعرفية والأكاديمية والدراسية، خاصة بالحقبة القبطية التى تزدان بها مصر وسط كل حقب التاريخ، وقد أنشئت المكتبة فى مهد الرهبنة الذى يعود إلى القرن الرابع الميلادى، وفى جو جاف وهو الصحراء لتحفظ ما يوجد داخل المكتبة من كتب تراثية وحديثة وأوراق بحثية متنوعة، وبذلك توفر المكتبة مساحة أكاديمية تهيئ البيئة القبطية التراثية للدراسة والقراءة والبحث لكل المهتمين فى القبطيات، وستكون مركزاً للتعاون مع جامعات مصرية وغير مصرية وهيئات أكاديمية فى دعم الباحثين محلياً وعالمياً اتباعاً لنموذج مكتبة معهد الآباء الدومينيكان للدراسات الشرقية بالقاهرة».
واستمر تنفيذ المرحلة الأولى من تلك المكتبة لمدة ثلاث سنوات، وأحد أهدافها، بحسب البابا تواضروس، جمع التراث القبطى بكل نوعياته وترميمه وتوثيقه وتصنيفه لتسهيل عرضه وإتاحته لجمهور الباحثين والدارسين فى مكان واحد، بالتنسيق مع الأديرة القبطية والقطاعات الجغرافية بالكنيسة والأفراد من أصحاب المقتنيات الخاصة.
وألغى البابا تواضروس شعار «الكتب الممنوعة» الذى كانت الكنيسة تطبقه خلال القرون الماضية، فضمت المكتبة، التى افتتحت فى 2019م، كل كتابات الراهب «متى المسكين»، و«مذكرات الأنبا غريغوريوس»، وحتى الكتب المحرّمة التى احتوتها مخطوطات نجع حمادى، وقال البابا عن ذلك: «مفيش حظر على كتب، مفيش حاجة اسمها الكتاب ده مايدخلش، الثقافة والمعرفة هى للجميع.. فى الكتاب المقدس موجود كل التفاسير، سواء شرقية أو غربية، قديمة أو حديثة.. الشخص اللى بيبحث عليه أن يختار المناسب له».
وأضاف البابا تواضروس، لـ«الوطن»: «أى كتب ستصل المكتبة سوف نحتفظ بها من أجل التحقيق العلمى والتاريخى».
والمكتبة تحتوى على أجهزة لتحويل الكتب والمخطوطات للديجتال من أجل الحفاظ عليها، وتحتوى على أسانسير خاص لنقل الكتب، وطاولات القراءة والاطلاع بها مزودة بالكهرباء والإنترنت، وحرصت الكنيسة على أن تحتوى المكتبة على لمسات جمالية لإعطاء الهدوء وراحة الفكر، ويعمل بالمكتبة رهبان من عدة أديرة، وتعمل المكتبة بنظام علمى، حيث تسجل الكتب على نظام إلكترونى لسهولة عملية البحث والدراسة، وتعد قاعة «التاريخ» هى الأكبر مساحة، حيث إنها مقامة على 400 متر مربع، دون عمود واحد يتوسطها، وتحتوى تلك القاعة على جزء مما يعتقد أنه «خشبة الصليب التى وضع عليها المسيح»، وفى تلك القاعة جميع الكتب التى تحكى تاريخ العالم والوطن والكنيسة والمسيحية.
ويقول البابا تواضروس: «المكتبة مهمتها حفظ التراث والاهتمام بالعمل البحثى والمعرفى، وتحقيق الكتب القديمة والمخطوطات علمياً وبحثياً والاستفادة بها لأن هناك كثيراً جداً منها غير منشور، كما نسعى للتواصل مع المكتبات العالمية مثل المكتبة الأهلية فى باريس ومكتبة الكونجرس لإبرام بروتوكولات تعاون معها، كما سنطلق موقعاً إلكترونياً خاصاً بالمكتبة، وحرصنا على توفير مكان للباحثين مجهز لاستضافتهم معيشياً داخل المكتبة التى تحتوى على ممر خلفى موضوع فيه جميع الوثائق الخاصة بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية».
وناشد البابا تواضروس الجميع بمد المكتبة بكل ما لديهم من كتب ومخطوطات للكنيسة لوضعها فى المكتبة من أجل استفادة الجميع وإتاحتها لكل من يريد البحث والدراسة.
ما قاله البابا تواضروس ليس غريباً عليه، فالرجل يحاول النهوض بالكنيسة وإزالة آثار الميراث الكبير من معاداة الكنيسة للكتب، منذ أن أمر الإمبراطور قسطنطين (306 - 337م) بحرق كتب من لا يؤمنون بالثالوث المقدس، وحرق الإمبراطور جوفيان عام 364م مكتبة أنطاكية لأنها ظلت لفترة طويلة فى قبضة الإمبراطور جوليان، وهو ليس مسيحياً، ونهب مكتبة الإسكندرية عام 392م وحرقها بواسطة حشود من الغوغاء المسيحيين وقتل الفيلسوفة «هيباتيا»، ويشير القمص أثناسيوس فهمى جورج، راعى كنيسة مارمينا فلمنج - الإسكندرية، إلى أنه توجد لوحة تصور البابا ثاؤفيلس الإسكندرى، بطريرك الإسكندرية الثالث والعشرين (385-412م)، وهو يحمل الإنجيل فى يده واقفاً منتصراً فوق معبد السيرابيوم (تم بناؤه فى عهد بطليموس الثالث الذى حكم من 246-222 ق.م) بعد أن تم تسليم مبنى المعبد إلى مسيحيى الإسكندرية عام 391م، كذلك تم أيضاً هدم معبد ديونيسوس (تم بناؤه فى عهد الملك بطليموس فيلادلفوس ثانى ملوك الدولة البطلمية الذى حكم مصر من 283- 246 ق.م، وكان المعبد مزيناً بالنقوش وبأسماء مشاهير الفن الديونيسى).
وأوضح الكاهن أنه في زمن هذا البطريرك انتهت الوثنية في مصر، ووقتها تم هدم معابد وثنية كثيرة بسبب انتهاء الحاجة اليها حسب أوامر الأمبراطور ثيودودوسيوس الكبير (347-395م) الذي اعترف بالمسيحية دينا رسميا للأمبراطورية، موضحا أن البابا ثاؤفيلس شيد الكثير من الكنائس بمدينة الإسكندرية بدلا من تلك المعابد، وذلك طبقا لمرجع يحمل اسم «وقائع العالم الإسكندري» وهو عبارة عن سجل مصور لمؤلف مجهول حول العالم الإغريقي القديم لمدينة الإسكندرية كتب في القرن الخامس أو السادس الميلادي، ووصلت منه بعض من شظايا البردي المحفوظة حتى اليوم في متحف بوشكين بالعاصمة الروسية موسكو.
وأضاف أثناسيوس: «أن ما فعله البابا ثاؤفيلس، جاء بسبب ما عاينه في طفولته التي عاشها في (ممفيس) من مهازل عبادة الأوثان في ممارسة مصارعة الثيران والسكر والعربدة والخلاعة وتقديم الذبائح والدم مما جعله يضمر للوثنية ردة فعل عكسية تجاهها، ومن جانب آخر اصدار الإمبراطور أول مرسوم بإعلان المسيحية دينا رسميا للدولة، الذي جعل الدولة تساند الكنيسة التي انتفعت من المعابد المهجورة وحولها البابا إلى كنائس، حتى أنه يقال أن الأمبراطور سلم للبابا مفاتيح هذه المعابد من الإسكندرية إلى أسوان والتي كان معبد السرابيوم اشهرها في الشرق الأوسط والذي صار فيما بعد كنيسة (القديس يوحنا المعمدان وأليشع النبي(».
والبابا ثاؤفيلس هو أول من أطلق على الكنيسة المصرية اسم الكنيسة القبطية، وهو تلميذ البابا أثناسيوس الرسولي البطريرك الـ20 للكنيسة والأخير هو من دخل في صراع عقائدي وفكري مع الكاهن القبطي «أريوس» داخل ما يعرف بـ«مجمع نيقية» عام 325م، وهو الذي حدد الأناجيل المعترف بها رسميا وحرم الباقي وأمر بحرقها ومطاردتها، كما أن «ثاؤفيلس" هو خال البابا كيرلس الكبير أو كيرلس عمود الدين، البطريرك الـ24 للكنيسة، والذي واجه بطريرك القسطنطينية «نسطور» فيما عرف بـ«مجمع أفسس المسكوني الثاني» عام 431م، وهو المتهم بالمسئولية عن قتل الفيلسوفة «هيباتيا» التي كانت تتبع الأفلاطونية الحديثة، ويقول «سقراط» أنها ماتت بطريقة بشعة على أيدي بعض المسيحيين في مارس 415م.
إلا أنه ظهر في الكنيسة رجال حملوا مشاعل التنوير، عملاً بالآية التي وردت في الإنجيل: (فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهي التي تشهد لي) (بو 5: 39)، فأخذوا يبحثون في كتب التراث القبطي مزيلين من عليها القداسة وأرجعوها إلى صنع البشر، فطالبوا بمراجعة الأساطير والقصص الخرافية وكل ما يخالف العصر، ودعوا لتجديد الخطاب الديني وصرخوا بـ«حتمية الإصلاح الكنسي»، فاصطدموا بالتعاليم والتقاليد، فألصق بهم الأصوليون تهم «البدع والهرطقة والخروج عن الإيمان».
وتحرص الأديرة في العصر الحديث على التنمية الثقافية والروحية واللاهوتية والكنسية والعلمية للرهبان، حيث يتم تنشيط الدور البحثي والعلمي من خلال مجموعات رهبانية بحثية في مجال اللغات والمخطوطات والأثريات والكنسيات، وتعمل الكنيسة على توافر آليات للبحث العلمي داخل الأديرة، وتكوين لجنة خاصة بالبحث العلمي والتنمية الفكرية داخل كل دير مع متابعة اللجنة المجمعية للأديرة لأنشطتها، حتى أن البابا تواضروس عمد إلى أحداث نهضة دراسية وعلمية في الأديرة، فأرسل الرهبان في بعثات تعليمية دراسية بالخارج.