لسوء الحظ فإننى لا أعرفه شخصياً، لكن فى المقابل لعلنى أحفظه إنسانياً ووجدانياً وفكرياً، لذا لا يمكننى أن أبتسر توصيفه فى كونه مجرد سيناريست، وإن كانت الصفة الأخيرة فى تقديرى كبيرة جداً، لكنه يقيناً أكبر منها، إنه محفوظى النزعة، يراقب المجتمع بعين راصدة وقلب نابض وعقل منصف أمين، العدالة الإلهية عنده واعدة ممهدة للقادم، حاضرة لا تتأجل، فضلاً عن أنها لا تغيب، ويا سادة استدعاء العدالة الإلهية حكماً على كل المشاهد الإنسانية هو محض الإيمان، فالإيمان الذى أفهم وأوقن هو الذكرى الدائمة لمن يتحتم علينا ألا ننساه، والحضور الإشرافى الذى لا ينبغى أبداً أن يغيب، واللقطة العلوية (التوتال) التى لا تفارق عقل المؤمن فيستدعيها لا بين الحين والحين، بل فى كل حين، فهو لا يستطيع أن يعاين الحياة بعيدة عن مراقبة خالق الحياة.
وأحمد عبدالله بين (الكباريه) و(الفرح) و(ساعة ونص) و(200 جنيه) لم يراوح مكانه الأثير فى مقعد قريب من مصر المجهدة المهملة المتألمة، مصر التى جسَّم فى شرحها متلازمة الفقر والكفر، فقد قيل إن الإمام علياً، كرَّم الله وجهه، قد قالها يوماً: (الفقر رفيق الكفر)، أو (الكفر رفيق الفقر)، وهو لا يعنى أبداً أن الفقير كافر، أو أن الكافر بالضرورة فقير، لا ثم لا، بل المعنى أنه فى المقابل يدرك أن الفقر نتاج الظلم، وأن الظلم يلد الكفر وينظم للناس تفاصيل عذاباته، وأنه يسوّغ للنفوس المريضة أسباب المعصية ومبررات الفجور.
أحمد عبدالله جسَّم مقولة الإمام، وجسَّد حقيقة ما فيها من موت زؤام، والشيطان الذى يعرضه «عبدالله» ليس غليظ الحاجبين الأسودين، ولا أشعث الذقن، ولا بالضرورة مفترساً حيوانى المظهر، ولا صريح الشر، متبجح الرذيلة، بل إنه مراوغ حتى لنفسه، مخادع حتى لوجدانه، خائن وأول من يخون ضميره، يجمع المتناقضات، لا لأنه متردد فى كفره، متهيب فى معصيته، بل لأنه يكره الاستقامة حتى لو أضحت سهماً مصوباً نحو أطماعه، إنه باختصار صنيعة إرث المنافقين الدجالين جيلاً بعد جيل، خبراتهم الخبيثة تراكمت وتوارثت فباتت خبراتها كافية لأى تضليل.
آه من هذا الكاتب الموهوب الذى يهب لشخصياته فرصة الحساب، وربما الثواب والعقاب قبل الرحيل وقبل الغروب، إنه يصنع بالدراما فرصة نادرة للتوبة من الذنوب، إنه يذكر ملايين المشاهدين بملايين المساكين والمعتقلين فى سجون الكذب والالتواء والنفاق والظلم والهروب.
أحمد عبدالله؛ تستحق كل تكريم على الصدق، ينبغى أن تنال كل تبجيل على الدقة فى رسم الحق، أعلم أنك شاب، أو كنت وأملى مهما كبرت ألا تشيب، فعقلك الساكن فى بيت الدنيا لا يغفل أبداً رؤية السماء، وينبغى أن يظل طوال الوقت بهذا البزوغ وذلك البهاء.
الأوراق المبدعة هى وطن الفنانين الكبار يحيلونها على الشاشة أمام أعيننا نوراً وناراً، فها هى إسعاد يونس فى هذه المساحة الصغيرة من (200 جنيه) تؤكد كم هى كبيرة رصينة، وكم هى مصرية موهوبة، وها هما السقا والصاوى يثبتان كم الرسوخ فى الفهم، وكم الشموخ فى التعبير، أما ليلى علوى فقد كانت مفاجأة بحق وكأنها اكتشاف جديد، حتى إنك قد تمدح قسوة الأحزان إن هى منحت الوجه كل هذا الحنان.
صحيح أن السيدة المتعبة المجهدة المهمومة قد تسلَّمت ورقة الـ200 جنيه ضمن نقود معاشها، ثم سرقها الابن العاق الفاجر من كيسها البسيط الفارغ، سرقها بعين واسعة جشعة وقلب ضرير، وحينما أجهدها البحث عن ورقة الفلوس، وأدركت أن ضياعها ليس صدفة، بل من صنيع قبح النفوس، توجهت إلى ربها داعية على السارق المنحوس، فتنقلت الورقة من يد إلى يد عبر رحلة طويلة جداً فى الدنيا القصيرة جداً، ولندرك رغم تفاوت أصحاب الأيادى فى الصفات والظروف والضحكات والعذابات، ندرك رغم كل هذه التفاوتات كم التشابه، بل ربما التماثل والتوحد فى أنهم جميعاً أسرى، وأن أرواحهم المشلولة باتت كالمومياوات، أنهم جميعاً مسجونون فى قوانين الحياة، تصنع بهم قصصاً يؤدون فيها، رغماً عنهم، أدواراً رئيسية وفى حقيقتها تعيسة.
وها هى ورقة الفلوس تعود إلى يد السيدة البسيطة، تعود نعم، ولكنها أضحت مبللة بالدماء، بينما المسكينة ضائعة بلا رجاء.