البداية كانت فى منتصف عام ١٩٨١ حين أصدر المجلس الأعلى للجامعات قراره بإنشاء مركز الكلى والمسالك البولية بجامعة المنصورة كوحدة ذات طابع خاص لها استقلالها الإدارى والمالى والفنى.. القرار كان تتويجاً لجهد العالم الجليل الدكتور محمد غنيم وبعض زملائه الذين حلموا بهذا الكيان لأعوام طويلة قبل ذلك التاريخ.. وفى مايو من عام ١٩٨٣ تم افتتاح المركز رسمياً.. وتمكن الدكتور محمد غنيم ورفاقه من تحقيق حلمهم لدرجة أن المركز تحوّل إلى أيقونة طبية عالمية تقدم خدماتها للشرق الأوسط وأفريقيا بل والعالم أجمع من دلتا مصر..!
كانت تجربة مركز الكلى بالمنصورة هى الدافع الأساسى لإنشاء العديد من المراكز المتخصصة للكبد والعيون وغيرها بذات الجامعة.. لتتحول المدينة الهادئة إلى عاصمة للطب فى شمال مصر بالكامل.. ويأتيها المرضى حتى من القاهرة بحثاً عن العلاج القائم على أسس سليمة ومعايير عالمية..!
الأمر كله كان قبل أن تنتشر العدوى لباقى الجامعات.. وتتكرر التجربة بنجاح فى العديد منها..!
ثم تلقت وزارة الصحة الفكرة.. وشرعت فى إنشاء معاهد الأورام بالمحافظات لتكون قِبلة للمصابين بذلك المرض اللعين بدلاً من أن يضطروا للذهاب للمعهد القومى للأورام، فى خطوة أراها الأفضل بين كل ما تم إنجازه فى الوزارة عبر عقود حكم مبارك.. ولكن للأسف توقف الأمر عند هذا الحد لسبب لا أعرفه..!
تمتلك وزارة الصحة معاهد تعليمية مركزية فى محيط القاهرة الكبرى كمعهد ناصر والقلب والكلى.. وكلها تؤدى عملاً أقل ما يقال عنه إنه متميز حقاً.. ويقدمون خدمات طبية يحتاجها الناس فى إجادة ومهارة لا تجدها فى مكان آخر.. ولكنهم فى الوقت نفسه يمتلكون قوائم انتظار بالآلاف يعرف أى ممارس للمهنة أنه لن ينجح معها أى محاولة لإنهائها مهما حاول الجميع.. فكل يوم يضاف إلى كل مستشفى مئات المرضى القادمين من كل أنحاء الجمهورية..!
ربما كان تعليق السيد الرئيس بشأن تلك الطفلة التى تعرضت لحادث سيارة واحتاج الأمر لنقلها من محافظة أسيوط إلى القاهرة لتتلقى العلاج بعد مناشدة إعلامية، هو أصدق ما يمكن الاستناد إليه حين نتطرق للحديث حول توزيع جغرافى عادل للرعاية الصحية.. فهى المرة الأولى بحسب اعتقادى التى يصرح فيها الرئيس أو أحد المسئولين بأن الأمر يتطلب نظرة متمعنة دقيقة..!
الرئيس صرح بأن الوضع لا يمكن القبول به.. وأن الأمر يعنى أن العلاج يقدم على أرض هذا الوطن بشكل «تمييزى».. فالمريض يحتاج أن يسافر إلى العاصمة ليقدم له العلاج لأنه غير متوفر فى المنطقة التى يقيم بها..!
كل ما سبق يجعلنا نطمح أن تبدأ الوزارة فى دراسة إنشاء فروع للمعاهد المركزية كمعهد ناصر ومعهد القلب بالأقاليم فى الدلتا والصعيد.. على أن يتم توزيع المرضى عليهم طبقاً لمحل الإقامة.. ودون أن يتحمل المعهد الأصلى العبء الأكبر ويصبح مطالباً بما هو أقصى من إمكانياته..!
الأمر فى رأيى يمكن تنفيذه بسهولة إن تم التعاون بين وزارة الصحة والتعليم العالى فى المحافظات لتوفير الكفاءات الموجودة بالفعل والمكدسة بالجامعات.. وإعادة توزيع موازنة الإنشاءات بالوزارة لتحديد الأولويات..
إن وجود توزيع جغرافى عادل للرعاية الصحية هو ضرورة تفرضها الطبيعة الجغرافية فى المقام الأول.. وتعضدها الأعباء الاقتصادية التى يتحملها المواطن البسيط.. بل وينبغى أن تنضم إلى أولويات وزارة الصحة فى الفترة المقبلة.. فالجمهورية الجديدة لا يليق بها أن يقدم بها العلاج بشكل تمييزى.. بل ينبغى أن يقدم العلاج لكل إنسان وفى أى مستوى بكل مكان على أرض هذا الوطن.. أو هكذا أعتقد..!