كان يوم «سبت». وكل أيام السبت ومعها الثلاثاء من كل أسبوع، هى أطول وأثقل أيام السنة الدراسية. وفى هذا اليوم كنا صائمين أو نتظاهر بالصيام حتى نفلت من عقاب إهمال حل الواجبات المدرسية.
وفى هذا اليوم الدراسى الطويل، السبت الموافق 6 أكتوبر 1973، تم إلغاء الحصة السابعة فجأة، وخرجنا من المدرسة الإعدادية إلى شوارع وطرقات المدينة الصغيرة، ليقطع كل منا الطريق إلى قريته فى لمح البصر، فرحين بإلغاء الحصة السابعة، دون أن ندرى أننا على موعد مع إجازة مدرسية طويلة قد تصل إلى شهر كامل.
كنت آنذاك فى الصف الأول الإعدادى، وما زلت حتى الآن أتذكر إحساسى بالغربة فى المدرسة الإعدادية، التى تقع فى مدينة مجاورة لقريتى، ولهذا كان خروجى منها يمثل انعتاقاً مؤقتاً من السجن، فأقطع المسافة إلى قريتى -حوالى 2 كم- هائماً فى الغيطان قبل أن أصل إلى البيت. وفى هذا اليوم تحديداً لاحظت أن سماء الغيطان يحدث بها شىء غريب لم يسبق لى أن رأيته بهذه الكثافة.
ما كل هذه الطائرات التى تمرق فوق رؤوسنا؟!. لا أحد من كل الرجال المنكفئين على أعمالهم فى الغيط يملك إجابة عما يحدث.. ودب الخوف فى قلبى وأنا أسرع الخطى لأدخل القرية وأحتمى بجدرانها من هذا المجهول الذى يحلق منخفضاً فى سمائنا.. وما إن وصلت إلى قهوة كانت تقع فى شارع «داير الناحية» حتى رأيت حشداً من الرجال والأطفال يتحلقون حول «الراديو».. ولم أفهم شيئاً من كل ما قيل غير أن «الحرب قامت».
وصلت إلى البيت فوجدت جدتى وأمى -رحمهما الله- جالستين أسفل الراديو المنصوب أعلى الحائط، والراديو يذيع أغانى وطنية.. وبعد وقت قصير تتوقف الأغانى لإذاعة «البيان التالى».. ومع كل بيان تنفطر أمى ويكاد بكاؤها يزلزلنى.. وأعرف أنها مرعوبة على شقيقها المجند فى الجيش.. وقرب المغرب أشعر بشىء غريب:
الخوف الرهيب على خالى وعمى المجندين فى الجيش، يختلط بمشاعر فخر وفرح، لأن الجيش المصرى عبر القناة وحطم خط بارليف.
ومثل كل أطفال القرى، كان كل ما يشغلنى هو أننى تخلصت ولو مؤقتاً من «سجن المدرسة».. ولكننى كنت أنتظر أيضاً أى رسائل تصل من خالى أو عمى، واعتدتُ خلال الأيام الأولى من الحرب أن أراقب السماء نهاراً لأشاهد الطائرات وهى تمرق من فضاء قريتنا، ومع قدوم الليل كنت أقضى ساعات طويلة مع حشد كبير من الأهالى يجلسون حول بيت العمدة، الذى كان يتلقى إشارات مقبضة عن الشهداء أو المصابين من أبناء القرية، ومع كل إشارة كان الصراخ يندلع هنا أو هناك.. والجنازات تنعقد لتردد نشيداً ما زال صداه محفوراً فى وجدانى: «فى سبيل الله يا ميت شهيد».
وتمضى الأيام، ولا شىء فى القرية غير حديث الحرب والنصر والشهداء والجرحى.. حتى جاء يوم كنا نلعب فيه الكرة فى شارع «داير الناحية».. عندما انتبهنا إلى أصوات زاعقة تعلن القبض على جاسوس إسرائيلى فى شوارع القرية.. وأسرعنا إلى مكان احتجاز الجاسوس، فإذا بنا أمام «متسول» من هؤلاء المتسولين الذين يجوبون القرى فى مواسم الحصاد، ولكن الرجل كان مختلفاً إلى حد كبير، فهو أحمر الوجه وشعره الناعم ينسدل على جبهته وأذنيه، وعيناه ملونتان.. كان الرجل يقسم بكل الأيمان وهو يبكى أنه مواطن مصرى وليس إسرائيلياً.. وكلما أوشك الحاضرون على تصديقه، سارع أحدهم بتحذير الجمع الحاشد الذى يتحلق حول المسكين: «يا ناس يا بهايم.. ما هو الجاسوس لازم يتكلم عربى زينا.. وأكيد البطاقة اللى معاه مزورة».. وإذا بالتعاطف ينقلب إلى ثورة غضب جديدة، وينهال عدد منهم على «الجاسوس» ركلاً وصفعاً.
وفجأة يشق الصفوف رجل من كبار القرية يهابه الجميع، ويأمر الغاضبين بالكف عن ضرب الرجل، ويأخذه من يده إلى بيت العمدة ونحن خلفه، ويتصل العمدة بمركز الشرطة، وبعد يومين فقط نعرف أن المسكين لم يكن جاسوساً، وإنما هو متسول من قرية تبعد عن قريتنا عدة كيلومترات.. وأنه اعتاد أن يمارس حرفته فى القرى البعيدة حفاظاً على كرامته وكرامة أبنائه!
وآنذاك، كان يوم الأحد من كل أسبوع، هو يوم السوق الكبير فى المدينة المجاورة لقريتنا، ولكن أثناء الحرب تم تأجيل انعقاد السوق، ولهذا اكتفى أبى -رحمه الله- بأن نجمع كل عدة أيام عدداً من أقفاص الطماطم، ونقوم بتوريدها إلى الشادر ليلاً، ولم أعد أذكر كيف تخلفتُ فى هذا اليوم عن المشاركة فى جمع الطماطم، ولكنى لن أنسى أبداً هذا الجحيم الرهيب الذى اندلع فوق رؤوسنا عصر يوم الأحد الموافق 14 أكتوبر 1973.
كنتُ فى هذا اليوم هائماً كعادتى فى غيطان القرية مع ثلاثة آخرين من أصدقاء الطفولة، واستقر بنا المقام على مدار ساقية تحت ظلال شجرة جميز عتيقة، رُحنا نقطف ثمارها ونغسلها فى الماء الجارى قبل تناولها، وإذا بالسماء تنفجر.. طائرات لا حصر لها، وأصوات لا عهد لنا بها، ودخان يغطى الأفق للحظات قبل أن ينحسر عن نيران مشتعلة.. ثم نشاهد مرعوبين مظلات يتدلى منها أشخاص يهبطون فى أماكن ربما كانت قريبة من موقعنا على مدار الساقية.. وأشياء غريبة تلقى بها الطائرات ونشاهدها وهى تتهاوى إلى الأرض.. وأصوات صراخ بشرى تصل إلينا بين لحظة وأخرى، وأحد الأطفال يقول فى رعب: عايز أروَّح.. فيرد عليه طفل آخر: «خلينا هنا أحسن.. ممكن الطيارات تشوفنا فتضربنا».
ولا أدرى ما الذى حدث؟.. كل ما أذكره وكأنه حدث بالأمس، أننى انطلقتُ أعدو كالمجنون.. السماء مشتعلةٌ فوقى وأنا أجرى.. أقع وأنهض لأواصل الجرى، ليس فى اتجاه البيت، وإنما فى اتجاه قرية «ميت الخولى مؤمن» التى تقع فيها أرضنا وأرض أعمامى، وكل ما أفكر فيه هو شقيقى «محمود» الذى يصغرنى بعامين، وكان فى هذا اليوم مكلفاً بحراسة حقل الطماطم، وفى الطريق رأيت حشوداً هائلة من البشر تحاصر مقابر قرية ميت الخولى، وبينما أحاول معرفة ما يحدث، شاهدتُ أخى وسط الحشود، وعرفنا أن طياراً قفز بمظلته وهبط فى المقابر، وما هى إلا لحظات حتى هدأت السماء من فوقنا وجاءت الشرطة العسكرية وتسلمت الطيار الذى كان مصاباً بكسر فى قدمه.
بعد ذلك بسنوات طويلة سأعرف أن هذا اليوم -14 أكتوبر- كان ملحمة غير مسبوقة فى تاريخ معارك الطيران، وأن حوالى 160 طائرة إسرائيلية حاولت اقتحام سماء مصر لتدمير قواعدها الجوية فى المنصورة وطنطا والصالحية، وأن 62 طائرة مصرية تصدت لهذا الهجوم الكاسح ببسالة مذهلة، واستمرت المعركة 53 دقيقة كاملة، وهى أطول مدة فى معارك الطيران، ولهذا أصبح هذا اليوم عيداً سنوياً لقواتنا الجوية.
ولكننى قبل اكتمال المعرفة، انخرطتُ فى تتبع حكايات الكبار عن المعركة، خصوصاً عن أبطال قريتنا المجندين فى الجيش آنذاك، وكنا نقضى الليل كله حتى موعد السحور فى رمضان ساهرين على مصاطب البيوت، نردد ما نسمعه من الكبار، ويطاول إحساسنا بالفخر عنان السماء.
ولكننى ذات ضحى أفيق على شىء خطير يحدث: القرية كلها تجرى باتجاه الغيطان لمحاصرة طيار إسرائيلى سقط بمظلته فى حقل أرز، وأجرى مع الناس، وأظل هناك حتى تأتى الشرطة وتحمل الطيار فى سيارة تحرسها البنادق، وفى طريق العودة أصادف عمى فتحى، وهو رجل غريب عن قريتنا، كان يعيش بيننا منذ سنوات، ويعمل نضاحاً لبيارات الصرف الصحى ويتاجر فى جلود الحمير النافقة التى يسلخها بنفسه، ويعيش فى حجرة مهدمة ملحقة بزريبة مواشى.. وأستوقفه فى فرح لأبشره: «يا عم فتحى.. مسكنا طيار إسرائيلى والشرطة أخدته».. وإذا بى أفيق على أصعب وأوجع درس تعلمته فى حياتى.. فقد أشاح الرجل بيده وكأنه يهش ذبابة عن وجهه، ثم نظر ناحيتى فى حدة وهو يقول: «وأنا مالى يا بنى.. أنا لا عندى أرض ولا بيت.. هاوجع راسى بحاجة ماليش فيها ليه؟!».
والآن، مرت 48 سنة على هذه الذكريات، قضيت معظمها أبحث عن معنى راسخ لـ«الوطن»، وكلما استرحتُ إلى أننى قبضتُ على هذا المعنى، فاجأتنى ملايين الوجوه التى ينتمى إليها «العم فتحى».. وجوه لا تملك أرضاً ولا بيتاً ولا عائلة.. وجوه حرمتها الفئة الباغية التى تدير العالم من أدنى إحساس بالكرامة أو الأمان، وجوه تنفجر السماء فوقها وتهتز الأرض تحت أقدامها وهى سادرة فى الحياة دون حياة.. وجوه لا تشعر بالفخر ولا بالحزن.. فليفخر من يملك، وليحزن من لديه شىء يخشى أن يفقده.
ولهذا سأظل ما حييتُ على قناعة راسخة بأن غربة الفقر فى الوطن هى المعركة التى تنتظر حلاً حاسماً. فطوبى لشهداء نصر أكتوبر. وطوبى لكل من يجاهد الجهاد الأعظم فى معركة إنقاذ فقراء الأوطان من غربة الروح المهينة!