بعد ساعة واحدة فقط من إعلان الأكاديمية السويدية يوم الخميس 7 أكتوبر الجارى، عن فوز الأديب التنزانى «عبدالرزاق قرنح» بجائزة نوبل للآداب، ثار جدل واسع على مواقع التواصل الاجتماعى حول جنسيته، فقد اعتبره البعض ثانى روائى عربى يفوز بنوبل للآداب بعد نجيب محفوظ، على اعتبار أن «عبدالرزاق» الذى يحمل الجنسية البريطانية، ينحدر من أصول يمنية، وفجأة سكتت هذه الأصوات المحتفية بعروبته عندما غرّد الرجل على «تويتر» قائلاً: «أهدى جائزة نوبل هذه لأفريقيا والأفارقة ولجميع قرائى، شكراً»!.
ولكن «شكراً» الصادمة هذه، لم تمنع سكان بلدة «الديس» الصغيرة فى محافظة حضرموت باليمن، من تهنئة عائلة «قرنح» التى ما زالت تعيش هناك، بفوز واحد منهم بأهم جائزة أدبية فى العالم.. فطبقاً لروايات عديدة موثَّقة، وُلد عبدالرزاق قرنح فى جزيرة «زنجبار» عام 1948، لعائلة من حضرموت هاجرت فى منتصف الأربعينات من القرن الماضى إلى ساحل شرق أفريقيا الذى كان آنذاك ساحلاً عربياً إسلامياً، وظل كذلك حتى عام 1964 عندما تم إجلاء العرب عنه، وتعرضوا لانتهاكات وحشية، بعد ضم زنجبار إلى تنجانيقا الأفريقية، وتشكلت منهما معاً جمهورية تنزانيا الاتحادية.
على الجانب الآخر فى تنزانيا الأفريقية، نشب جدال واسع حول «قرنح»، وترصد الزميلة هبة عبدالستار فى صفحة ممتازة أعدتها لجريدة «الأهرام» عن «قرنح»، ما قالته المحامية التنزانية فاطمة كرومى التى أكدت أن بعض التنزانيين «يتخوفون من حقيقة أن تنزانيا لا تعترف بالجنسية المزدوجة، لكنهم كانوا يحاولون يائسين المطالبة به باعتباره تنزانى الأصل، وأن فوزه هو فوز لتنزانيا»!.
وتقول هبة عبدالستار: «فى أكثر من حوار معه عندما كان يُسأل عن أصوله، كان يجيب دون مواربة: أنا من زنجبار، ليس هناك أى لبس فى ذلك»، ولكن الدكتور حسن مدن -وهو كاتب بحرينى مرموق، وصاحب عمود يومى فى جريدة الخليج الإماراتية- يرصد ما قاله «قرنح» فى مقابلة له رداً على سؤال عما إذا كان يعتبر نفسه كاتب أدب ما بعد استعمارى، فأجاب: «لست متأكداً إن كان بوسعى أن أطلق على نفسى أى شىء، عدا اسمى».
ورغم ذلك فإن الدكتور حسن مدن يكتب اسم عائلة عبدالرزاق بثلاث صيغ مختلفة، فهو مرة «جونة»، وأخرى «جرنة»، وثالثة «جرة»!.
وخلال رحلة البحث العربية والأفريقية عن هوية «عبدالرزاق قرنح»، للاحتفاء به كما يجب، وللفرح بجائزته باعتبارها اعترافاً من نوبل بأدبنا العربى أو الأفريقى، يعثر كثيرون على حوار قديم لموقع «المدى» العراقى معه، يؤكد فيه أنه فقط وُلد فى زنجبار التابعة لتنزانيا حالياً، وأنه تعلم قراءة القرآن فى طفولته، ولكنه غادر بلده إلى لندن وعاش هناك كمهاجر قبل أن يحصل على جنسيتها، ثم يقول إنه ليس متأكداً من أنه -فيما يكتب- تأثر بالثقافة العربية الإسلامية، ثم تأتى حيثيات جائزة نوبل لتضغط بوضوح شديد على أزمة هويته الملتبسة: «إنه يكتب عن مصير اللاجئين بين الثقافات والقارات».. ورواياته «تنأى بنفسها عن الأوصاف النمطية وتفتح أنظارنا على شرق أفريقيا المتنوع ثقافياً»، ثم تكتب السيدة إليكسندرا بيرنجل -وهى وكيلته الأدبية- «إنه يكتب عن التشرد والضياع، ولكن بأجمل الطرق وأكثرها حفظاً للأخلاق».
وفى حوار آخر معه حاولت فيه المحررة أن تعثر على شىء راسخ بداخله عن هويته أو جنسيته، اكتفى عبدالرزاق قرنح بالقول: «أريد بكل بساطة أن أكتب بطريقة تكون أقرب ما يكون إلى الحقيقة.. وأن أقول ما فيه نبل». والمحصلة أننا أمام لاجئ أفريقى يصر على أنه من مكان فى شرق أفريقيا اسمه زنجبار كان حتى عام 1964 عاصمة لمملكة عمان العربية، عندما قام شخص مغمور ومرتزق من أوغندا، بحشد جيش -وبمساعدات إسرائيلية موثقة- وتمكن من إسقاط المملكة العمانية وإنهاء حكم العرب لزنجبار، وآنذاك كان عمر «عبدالرزاق» 16 عاماً، والمؤكد أنه تشرب حتى النخاع ما فعله الاستعمار البريطانى فى زنجبار، حيث نجحت بريطانيا فى الوقيعة الدينية والعرقية بين العرب والهنود والأفارقة، وتعرّض العرب تحديداً لمذابح مروّعة وتم خطف العديد من أطفالهم وتجنيدهم فى حروب وبلاد أفريقية أخرى وتحولوا إلى مرتزقة يحاربون من أجل أمجاد الإمبراطورية البريطانية!.
وخرج عبدالرزاق فى هجرة بائسة إلى لندن، كان عمره 18 عاماً فقط عندما وجد نفسه ضائعاً ومضطهداً ومنبوذاً فى «بلاد شديدة البياض».. حتى إنه -كما تقول هبة عبدالستار- شاهد نفسه ذات مرة فى مرآة فكاد أن ينكر وجهه الأسود وسط كل هذا البياض الذى يحاصره».
ورغم أنه ترقّى إنسانياً، وتعلم لغة المستعمر، وحصل على الجنسية البريطانية، وأصبح أستاذاً للأدب الإنجليزى فى جامعة «كنت»، فقد ظل عالقاً فى فجوة بين القارات والثقافات لم يفارقها أبداً. ويبدو جلياً من عناوين رواياته وتلخيص حكاياتها التى أتاحتها هبة عبدالستار فى «الأهرام» للقراء، أن تجربة لجوء الأفارقة إلى البلدان الأوروبية التى استغلتهم ودمرتهم، وأن احتماء الضحية وبحثه عن الأمان والاستقرار والكرامة فى حضن قاتله، هو الجرح الهائل الذى تشغل آلامه وتناقضاته وضياعه، كل أعمال عبدالرزاق قرنح دون استثناء واحد.
وإلى جانب ضياع الهوية، تنشغل كل أعمال «قرنح» بقضية أخرى هى الأشد وجعاً، فكثير من الأفارقة أو العرب أو الهنود فى ساحل زنجبار باعوا أطفالهم أو قاموا بتأجيرهم لجيش ألمانيا الاستعمارى، وآخرون باعوهم لجيش بريطانيا الاستعمارى أيضاً، وكثيرون من هؤلاء «الصبية» المرتزقة اندمجوا فى حروب ومذابح رهيبة ضد مواطنيهم، وعندما انتهت الحروب واستقلت دول أفريقيا ظاهرياً، بدأت المجازر بين أبناء البلد الواحد تستوفى مطالبها، وراح المركز الاستعمارى يستقبل الفارين الأفارقة من بلدانهم بعد فرزهم، لاستخدامهم -أو استعبادهم- فى مزارعه ومصانعه، وتكويمهم فى مناطق سكنية معزولة هى أقرب للزرائب من المساكن الآدمية!.
وكان طبيعياً ألا تفارق هذه المآزق المرعبة روحاً نبيلة مثل روح أديب ومفكر وأستاذ أدب إنجليزى مثل عبدالرزاق قرنح.. الذى اتضح أنه شارك كثيراً فى مؤتمرات عربية داعمة لفلسطين باعتباره إنساناً قبل أن يكون أى شىء آخر.. وهو إذ يقرر فى كل أعماله أنه لا يفارق جراحه وتناقضاته وعذاباته، لا يحلم أبداً ولا يتصور أنه سيحصل ذات يوم على أى اعتراف رسمى بقيمة ما يكتب.. حتى إنه اعتبر إخطاره بحصوله على نوبل للآداب، مجرد مزحة ثقيلة.
ولكنها لم تكن مزحة، كانت حقيقة مؤثرة وملهمة، ثم لعلها أخيراً ستظل درساً لآخرين تجردوا من هوياتهم وثقافاتهم وانضموا إلى معسكر «إقالة الأدب من كل وظائفه الإنسانية» وزحفوا على بطونهم لنيل جائزة نوبل.. ولكنها فى النهاية ذهبت لرجل لم يفكر فيها على الإطلاق، وهو يغمس قلمه فى رواية بعد أخرى، فى جرح بلاده النازف، وفى التعبير عن مآسى البحث عن الأمان فى أحضان القتلة، أو العيش تحت رحمة زعماء وطنيين، كانوا وما زالوا أكثر وحشية فى التعامل مع شعوبهم من الاستعمار!.