منذ عام 2006 وأنا أشاهد العلامة الإرشادية التى تشير إلى طريق «غابة الصداقة المصرية اليابانية» التى تقع ضمن الحدود الإدارية لمركز وادى النطرون بمحافظة البحيرة، وفى المرة الأولى التى علمتُ فيها بوجود هذه الغابة الصناعية عرفتُ من جيرانها فى قرية الجعارة أنها أُنشئت فى منتصف تسعينات القرن الماضى بمنحة يابانية، ومع الاحتفال باليوم العالمى للغابات فى مارس من كل عام اعتدتُ أن أطالع عدداً من الأخبار عن اهتمام وزارتى الزراعة والبيئة المصريتين بإنشاء الغابات الصناعية والأحزمة الشجرية، وخصوصاً فى مناطق التقاء الوادى والدلتا بالصحارى المصرية الشاسعة.
وكثيراً ما فكرتُ فى زيارة غابة الصداقة المصرية اليابانية لأستمتع بثروتها من الأشجار الخشبية النادرة ومشاتلها وأحواض زهورها، ولكننى تأخرت كثيراً قبل أن أخطف نفسى من أى انشغال لأزور الغابة التى ظلت لسنوات عديدة مقصداً أساسياً لعشرات الآلاف من اليابانيين الذين يزورون مصر سنوياً.
والحقيقة أن الذى شجّعنى على الزيارة المؤجّلة منذ سنوات، ما قرأته عن فعاليات الدورة الخامسة والعشرين لهيئة الغابات والمراعى فى الشرق الأدنى التى استضافتها مصر يوم 19 أكتوبر الجارى، وشارك فيها مسئولون من هيئات أممية إلى جانب ممثلى 27 دولة.
وأمام 80 مشاركاً من صفوة خبراء العالم فى مكافحة التصحر وتغير المناخ، ألقى وزير الزراعة المصرى السيد القصير كلمة قال فيها: «إن مصر تمتلك العديد من الحدائق التاريخية مثل الأورمان بالجيزة والحديقة النباتية بأسوان وغابات الصداقة المصرية مع اليابان بمدينة السادات ومع الصين بمنطقة سرابيوم»!!.
وقد أدهشنى فى كلمة الوزير أن الذين أعدوها له انقطعت صلتهم تماماً بالغابات الصناعية، فالغابة اليابانية لا تقع فى مدينة السادات التى تقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظة المنوفية، ولكنها فى وادى النطرون، والغابة الصينية لا وجود لها فى سرابيوم، ولكنها تقع فى مدينة السادات.
ولهذا قررت أن أذهب إلى الغابة اليابانية وفى ذهنى وقائع محزنة ومفرحة ارتبطت بهذه الغابة منذ تسعينات القرن الماضى.
من بين هذه الوقائع المتداولة بين كل المهتمين بتاريخ العلاقات المصرية اليابانية، واقعة مذبحة الأقصر المروعة التى حدثت داخل معبد حتشبسوت بالدير البحرى فى نوفمبر 1997، وراح ضحيتها 58 سائحاً أجنبياً من بينهم 10 يابانيين، وآنذاك اجتمع البرلمان اليابانى للتصويت على قرار بعدم السماح لليابانيين بالمجىء إلى مصر، وشطب مصر من المقاصد السياحية اليابانية حفاظاً على أرواح اليابانيين من هذا الإرهاب الأسود.
وأثناء المداولات البرلمانية وقفت سيدة يابانية هى «يوريكو كويكى»، عمدة العاصمة طوكيو الآن، وكانت نائبة فى البرلمان اليابانى آنذاك، ودافعت باستماتة عن مصر، وألقت خطبة عصماء، قالت فيها -من بين ما قالت- إنه لا ينبغى أبداً لبرلمان اليابان أن يشارك فى الإساءة لدولة عظيمة مثل مصر تمتلك تاريخاً حضارياً يندر أن نجد له مثيلاً بين كل حضارات العالم القديمة.. ثم قالت إنها تتمنى أن تكون فى عداد الأموات قبل أن تشارك اليابان فى إضعاف مصر أو تمكين الإرهاب منها، والمثير أن كلمة هذه النائبة كانت السبب فى تصويت معظم النواب ضد قرار منع السياحة اليابانية إلى مصر.
ولأن السيدة «كويكى» تعلمت فى جامعة القاهرة وحصلت منها على ليسانس الآداب فى اللغة العربية، وعاشت بها سنوات طويلة مع والدها الموظف بإحدى الشركات اليابانية العاملة فى مصر، فقد كان لها الفضل فى وضع غابة الصداقة المصرية اليابانية ضمن البرنامج السياحى لمواطنيها، ومن اللحظة الأولى لإنشاء الغابة اقترحت على وزارة الزراعة المصرية تجهيز مشتل كبير يضم مئات الآلاف من الشتلات حتى يتمكن كل سائح يابانى من زراعة شجرة فى الغابة، وأن يضع عليها لوحة تحمل رقماً يحتفظ به، حتى يتاح له أن يزورها ويطمئن عليها بنفسه كلما عاد إلى مصر.
والذى حدث أن فكرتها أصابت نجاحاً كبيراً، فقد شهدت الغابة توافد عشرات الآلاف من اليابانيين الذين زرع كل منهم شجرة، وعاد بعضهم مرات عديدة للاطمئنان والتقاط الصور التذكارية مع الأشجار التى زرعوها.
لا أحد بإمكانه أن يتصور فرحة الأهالى القريبين من هذه الغابة اليابانية بهذا النوع من سياحة السفارى أو سياحة الغابات أو السياحة الزراعية، فقد ظلت هذه السياحة الجميلة مصدراً للدخل الاقتصادى المباشر، كما أن الغابة التى راحت تكبر عاماً بعد عام لعبت دوراً فارقاً فى وقف التصحر الذى كان يزحف على مساحات الأراضى المزروعة، وفى صدّ الرياح المحمّلة بالرمال التى كانت تدمر بيوتهم المتواضعة، وفى تخفيض درجات الحرارة فى شهور الصيف، وفى اجتذاب أسراب هائلة من الطيور فى كل شهور السنة.
وخلال الأعوام من 2000 حتى 2009 شهدت الغابة عشرات الرحلات المدرسية لطلاب المدارس والجامعات المصرية العامة والخاصة والدولية، لغرس الوعى بأهمية التشجير وزيادة المساحات الخضراء، وكانت هذه الرحلات تشكل دخلاً إضافياً مباشراً لأهالى القرى والنجوع القريبة من الغابة.كل هذا كان فى ذهنى وأنا فى الطريق إلى الغابة صباح السبت الماضى، 23 أكتوبر الحالى، وما إن وصلت حتى اجتاحنى مشهد الخراب الذى آلت إليه الغابة.
آلاف الأشجار أصبحت حطباً يابساً، وآلاف أخرى تقاوم الجفاف لأن جذورها وصلت إلى الخزان الجوفى، واللوحات التذكارية التى كانت تحمل أسماء أو أرقام الذين زرعوها محطمة تماماً، والبئر الجوفية التى كانت تروى الغابة احترقت طلمبتها منذ 6 سنوات، ومشتل الشتلات أصبح مرتعاً لحشائش متوحشة، وشبكة الرى بكاملها لم يعد لها وجود، ومحطة الطاقة الشمسية -وهى من أقدم المحطات فى مصر- معطلة منذ 10 سنوات بسبب حرمانها من الصيانة، وألواح الطاقة الشمسية قاربت على التآكل، ثم ها هو جانب كبير من الغابة تفحمت أشجاره العملاقة نتيجة حريق اندلع فى الصيف الماضى وكاد يقضى على الغابة كاملة.
وفى جانب من الغابة رأيت المبنى الإدارى وهو خالٍ تماماً من أى أثر للحياة أو للعمل، حتى اللوحات التى كانت تحتوى على بعض المعلومات عن الغابة تآكلت تماماً، وانمحت الكتابات التى كانت موجودة عليها.
وفى المجمل رأيتنى أتجول حزيناً فى منطقة أشباح تصلح لأن تكون مكاناً نموذجياً لتصوير مشاهد الرعب فى الأفلام والمسلسلات.. كما تصلح لأن تكون مأوى موحشاً للهاربين من تنفيذ الأحكام أو المسجلين خطر!
وفى نفس اليوم الذى زرت فيه الغابة عدتُ لأطالع بعض أخبار العالم، فإذا بى أمام خبر أعلنه ولىّ عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان عن إطلاق مبادرة سعودية لزراعة 450 مليون شجرة خلال عام واحد فى مدينة الرياض، لتكون أول عاصمة شجرية فى العالم.
ثم أعود إلى هذا الاهتمام العالمى المحموم بقضايا تغير المناخ وزيادة درجات الحرارة فى أنحاء الكوكب الذى نعيش عليه، وأقرأ عدة تقارير عن مخاطر مذابح الأشجار، وأتوقف طويلاً عند مساهمة بعض المسئولين المصريين فى هذا الاهتمام العالمى بخطب عصماء وتصريحات مثالية، بينما الواقع اليومى يشير إلى عداوة مستحكمة للأشجار فى مصر، وإلى مذابح شجرية تحرمنا من الأكسجين، وإلى إهمال إجرامى لما زرعناه من أشجار وغابات شجرية، لا نملك معه الآن غير أن نتوسل إلى الله بالدعاء، لعله يلهم هؤلاء القائمين على هذه المذابح الشجرية بشىء من الرحمة، أو بشىء من الوعى، يحمينا من مصير كئيب وممرض، ومن حياة شديدة القبح، فى عالم يكره الشجر والغابات إلى هذا الحد الكارثى.