أحوال التعليم فى مصر تمضى على كل المستويات من سيئ إلى أسوأ، ولكننى أتوقف هنا أمام ظاهرة مخيفة تنتشر فى كل مراحل التعليم من الابتدائى إلى الثانوى العام والفنى، هى ظاهرة انعدام تربية التلاميذ والطلبة، ومعاناة المدرسين ومديرى المدارس اليومية من استفحال البذاءة والبلطجة وتعاطى المخدرات والتنمر والمشاجرات الدامية وحيازة الأسلحة البيضاء فى كل المدارس الحكومية والخاصة دون استثناء.
خلال الأسابيع الماضية أُتيح لى أن أتحدث مع عدد من المدرسين ومديرى المدارس، وأن أطالع عدداً كبيراً من الأخبار والتقارير فى الصحف ومواقعها الإلكترونية تدور حول اعتداءات التلاميذ والطلبة على زملائهم، وعلى مدرسين أيضاً، وقد اكتشفت من الحديث المباشر مع المدرسين والقائمين على العملية التعليمية أن ما تنشره الصحف عن هذا العنف المتزايد فى المدارس، ليس أكثر من قطرة فى بحر، وأن سفالة بعض التلاميذ أو انعدام تربيتهم وميلهم للعنف والكذب والمغالطة، أصبحت هماً يومياً لغالبية المدرسين، يضغط على أعصابهم ويكاد يشغلهم تماماً عن القيام بأى نشاط تعليمى داخل الفصول.
واللافت فى توحش هذه الظاهرة أن كثيراً من أولياء الأمور أصبحوا عاجزين تماماً عن تربية أبنائهم وينتظرون من المدارس أن تقوم بهذا الدور كاملاً نيابة عن الأسرة، كما أن بعض أولياء الأمور يلجأون إلى اقتحام المدارس والقصاص بأنفسهم لأبنائهم الذين تعرضوا للاعتداء من زملائهم داخل الفصول، وقبل يومين نشرت الصحف خبراً عن اقتحام «معلمة» لمدرسة ابنها وبحوزتها «سكين» اعتدت به على تلميذ ضرب ابنها التلميذ فى المدرسة ذاتها.
والأهم من ذلك أن أولياء الأمور الذين يتم استدعاؤهم إلى المدرسة لإخطارهم بالسلوك المشين لأبنائهم، ينضمون فوراً إلى صف أولادهم ويدافعون عنهم باستماتة ويتهمون المعلمين والإدارة بالكذب وتلفيق التهم لأولادهم.
أحد المدرسين الكبار ممن تحدثت معهم، اتهم وسائل الإعلام بالتسبب فى تفشى هذه الظاهرة، لأنها توسعت فى نشر أخبار اعتداء المدرسين على التلاميذ، وبالغت فى الحديث عن وحشية وانعدام ضمائر بعض المدرسين، فى الوقت الذى يعانى فيه غالبية المعلمين من ظروف شديدة القسوة، ومن نقص صارخ فى أعدادهم ومن تكدس رهيب فى الفصول، ومن تدنى الأجور التى لا تكفى لإعالة فرد واحد، ومن افتقار المدارس إلى أى وسائل تعليمية، حتى أصبح ذهاب المعلم إلى مدرسته طقساً مرعباً، وكابوساً لا يرحم، وتهديداً قائماً بأن يتم تجريده من كرامته وإنسانيته على يد طالب معدوم التربية، وإذا جرؤ على معاقبة الطالب فسوف تنقلب الدنيا على رأسه ليجد نفسه فى حفل «تجريس» يشارك فيه الجميع دون أدنى رحمة، ولن يجد من كبار المسئولين فى الوزارة غير مجاملة الرأى العام، وسوف يسارعون بوقفه عن العمل وإخضاعه للتحقيق لأنه فقد أعصابه وصفع طالباً شتمه بألفاظ نابية وسبّ له الدين وهدده بالضرب خارج المدرسة.
معلمة أخرى عمرها 55 سنة، أقسمت أنها لم تستطع هذا العام أن تشرح حصة واحدة، وأن كل طاقتها تنفد فى محاولة فاشلة لإسكات 74 تلميذاً فى الفصل الواحد، ولفض المشاجرات بينهم، وأنها تعود إلى بيتها يومياً محطَّمة تماماً، بسبب ما تسمعه من ألفاظ نابية يتداولها تلاميذ الصف الثالث الإعدادى، وما تراه من سلوكيات مشينة لا تجرؤ على الإبلاغ عنها.
مديرة إحدى المدارس الابتدائية قالت إن هذا العام تحديداً شهد انفجاراً لبذاءة وسوء سلوك التلاميذ فى كل المدارس، لأنهم ظلوا عامين كاملين خارج المدارس أثناء «حظر كورونا»، وتكفلت الشوارع وقضاء معظم الوقت على «النت» بالقضاء على ما تبقى لديهم من احترام للمدرسة أو للمعلمين، ومع انشغال معظم الأسر عن تربية الأبناء، عادوا إلى المدارس وكأنهم خارجون من السجون.
وأسأل عدداً من المدرسين عن مدى صحة ما يقال حول انتشار بيع المخدرات بكل أنواعها أمام المدارس -وخصوصاً مدارس التعليم الفنى- فيؤكدون أن الأمر أصبح معروفاً للجميع، ومن ينكرونه يرتكبون جريمة فى حق المجتمع كله، ويحيلنى أحدهم إلى بيان رسمى صدر عن وزارة الداخلية يوم 10 أكتوبر الجارى حول حصيلة الحملة الأمنية التى استمرت يومين فقط فى محيط المدارس، وأسفرت عن ضبط 57 متهماً أثناء بيع المخدرات أمام المدارس، وعن مصادرة عشرات الكيلوات من البانجو والحشيش والهيروين والأفيون والاستروكس، ثم يقول: إذا كان هذا ما تم ضبطه خلال يومين فقط.. فما بالك بعشرات أضعاف هذه الحصيلة التى تباع سراً وعلناً أمام المدارس الفنية ولا يتم ضبطها؟!
مدرس كبير آخر لفت نظرى إلى شىء جديد فى هذه الظاهرة، هو «المدرسون المتطوعون» الذين يعملون مجاناً، ويفتقرون إلى أى خبرة فى التعامل مع التلاميذ، ولا تملك إدارة المدرسة معاقبتهم بالخصم أو بأى عقوبة أخرى، ومعظم هؤلاء يدخلون الفصول ويتركون التلاميذ يفعلون ما يريدون، والمهم لديهم أن ينتهى اليوم دون أى مشكلات، وعندما يدخل المعلم الأساسى بعد هذا المتطوع يكتشف أن الفصل أصبح «سويقة» تستحيل السيطرة عليها.
عشرات الحكايات المؤسفة استمعت لها من المعلمين الذين يعانون من عدم الاستماع إليهم، ولا تذكرهم وسائل الإعلام إلا عندما يفقد معلم أعصابه ويرد الصاع صاعين لطالب معدوم التربية، ويتم تناول المعلم فى الصحف والفضائيات بوصفه إنساناً متوحشاً، وهو فى الحقيقة مجرد إنسان مظلوم، مطلوب منه أن «يعلم الشعب»، وأن يصنع مستقبله المزهر، وهو يعانى من أدنى شروط الستر والكرامة، ويظل أوجع ما سمعته من أحدهم أنه لم يعد يعنيه فى المدرسة غير الحفاظ على كرامته، لا تعليم ولا تطوير ولا أى أكاذيب مما يقال، فقط كرامته التى لا تعنى غير شىء واحد: أن يعود إلى بيته دون أن يشتمه أو يعتدى عليه تلميذ بالضرب!.
وبعد كل ما سمعته، حاولت أن أعثر على حل يعيد للمدرسة هيبتها ودورها التنويرى والتنموى، ويعيد للمدرس كرامته وهيبته وشغفه لصناعة المستقبل.. فإذا بى بعد طول تفكير أمام «سويقة» تتشابك فيها كل الخيوط، أو أمام جسد ممدد على طاولة فى حالة احتضار، لا تصلح معه معالجات هى أشبه بمزيد من الرُّقَع فى ثوب مهلهل، حتى «رُقَعه» القديمة تمزقت هى الأخرى وأصبحت فى حاجة إلى ترقيع جديد.
ولكننى رغم هذا العجز عن الاهتداء إلى حل، أعلم -علم اليقين- أن المعلم موفور الكرامة الإنسانية، صاحب الكفاءة العلمية والمهابة التربوية، هو العمود الفقرى لإنقاذ «التعليم فى مصر» من كل أمراضه، وبدون هذا المعلم، ستظل كل محاولات أو ادعاءات التطوير، مجرد زوبعة عنيدة، يحاول شخص واحد أن يفرضها قسراً على مجتمع كامل أصبح التعليم من أكثر قضاياه وجعاً، ومن أكثر مشاغله استهلاكاً لوقته وجهده وأمواله دون أدنى طائل.