منذ بضعة سنوات حين كان يواجهني أحد أطفال العائلة ببعض العند أو الإصرار على رغبة معينة تتضمن "تضارب في المصالح" معي كمشادة على " ريموت التليفزيون" مثلا كنت أغضب جدا، وأصر على فرض إرادتي وتحقيق رغباتي المشروعة فأنا "الاقدم " في هذا المكان ولا ينبغي لطفل حديث المجيء نسبيا أن يعارضني أو يفرض إرادته علي!
في ذلك الوقت كنت اجادل أمي بشدة حين تخبرني بحكمة الزمن الجميل التي لم تعاصر زمن التربية الايجابية أن طريقتي خاطئة وان علي احتواء الاطفال ، والتفاهم معهم وعدم مواجهة العند بالعند. كان وجهي يحمر وتأخذني الجلالة وأنا أقول : "لا!! انا الكبيرة ولازم يسمعوا الكلام! فيه أدب! فيه تربية!! "
وحين ساقني القدر لدراسة التربية علمت مدى جهلي، فالانسان لا يعلم كم كان جاهلا إلا حين يتعلم! لا أدري كيف عرفت أمي الأمر بفطرتها التي لم تشوبها الدراسات الحديثة ولم يتخللها "هوس" التربية الايجابية، والذي أصبحت أحد "مجاذيبه".
وقد كان أول اكتشاف مبهر بالنسبة لي هو أن "الطفل الذي يسيء السلوك هو طفل مخذول وما يحتاج إليه هو التشجيع وليس العقاب". كان هذا اكتشافا كونيا بالنسبة لي أبهرني كثيرا!
إذن فهذا الطفل الذي نصفه في لغتنا الدارجة ب"قليل الأدب" هو ليس كذلك فعلا؟ بل هو يواجه احتياج ما يتطلب تلبيته، وحل الأمر بالقسوة والشدة لا يزيد الأمور الا سوءا!! أحقا ينبع سوء السلوك من إحباط أو خذلان ما يواجهه الطفل وليس لأنه ولد شرير مثلا أو عنيد أو وقح! كان هذا يعد فتحا كبيرا بالنسبة لي في المعرفة!
يقول "ألفرد أدلر" الطبيب وعالم النفس النمساوي، والذي تأسست التربية الإيجابية على مبادئه، أن الهدف المحرك للسلوك الإنساني هو: الشعور بالحب والانتماء ، والشعور بالأهمية والقيمة. وفي كتبها تشرح جين نيلسون - والتي أسست التربية الايجابية بناء على مباديء ألفرد أدلر التي تشارك فيها وأكملها الطبيب النفسي النمساوي رودولف دريكرز- أن الهدف الأول للطفل هو الشعور بالقيمة وبالانتماء في بيئته الاجتماعية، وسوء السلوك يكون محاولة منه لاخبارنا بافتقاده لهذين الشعورين، واعتقاد خاطيء منه بأن هذه هي طريقة تحقيق الهدف. فماذا نفعل نحن بدلا من محاولة فك شفرة الرسالة ومساعدة الطفل؟ أنا شخصيا – قبل أن يمن علي الله بالفهم - كنت أتعامل مع الأمر وكأنه تحد لشخصي وعدم احترام. بينما يجب أن نغوص بعمق لمعرفة السبب الدفين وراء السلوك بدلا من التعامل معه بندية وشدة وعنف أحيانا.
"الطفل الذي يسيء السلوك هو طفل مخذول"، كلمة رودولف دريكرز التي غيرت مفهومي تمام في التعامل مع الأطفال. يؤكد دريكرز على أنه حين يشعر الطفل بالخذلان أو الإحباط يظهر سوء السلوك، لذلك "الطفل يحتاج للتشجيع كما يحتاج النبات للماء". إذن فالاحتواء والتفاهم والتشجيع هو كلمة السر. والتشجيع قد يأخذ صورا عديدة منها التواصل العاطفي ودعم الأطفال لتحقيق أفضل نسخة من أنفسهم والشعور بالقدرة والصمود في مواجهة الحياة وشجاعة ارتكاب الأخطاء والتعامل معها كفرص للتعلم.
ومن أجمل ما سمعت في مجال التربية، وصف المستشارة التربوية حنان صبري لتأثير المربين على الأطفال من خلال تشبيه الطفل بالاسفنجة والموزة والبيضة! فكيف يكون ذلك؟
الطفل حتى سن 7 سنوات يكون كالإسفنجة، يمتص المناخ الذي يحيط به سواء كان سعيدا أو صادما، ولذا يجب التواصل والتحدث مع الطفل – حسب عمره - لمحو الآثار التي قد تظل معه، والناتجة عن أي حدث قد يكون صادما له، والذي قد يكون بفجاجة نظام تربية سيء، أو وصمه بصفة سيئة تكون لديه معتقدا عن نفسه، أو ببساطة ضياع لعبته! في هذه الفترة أيضا علينا مراقبة أنفسنا وتصرفاتنا بشدة لأنها سوف تكون مفهومه عن العالم من حوله وعن الخطأ والصواب.
في المرحلة التالية من سن 7 إلى 11 سنة ، الطفل كالموزة فهو لين طري، إذا غرسنا فيها شوكة التعنيف والصراخ والعقاب والتهديد تسببنا في خدوش وجروح وثقوب، قد تؤدي لقطعها، ومهما حاولنا إصلاحها فسوف تترك آثارا وذكريات حتى وإن ذهب الغضب، وإذا حاولنا فرد الموزة بالقوة تسببنا في قطعها، تماما كمحاولات التقويم بالغصب والإجبار تؤدي لكسر الطفل.
أما في المرحلة التالية وهي مرحلة المراهقة فالطفل كالبيضة! يبدو صلبا من الخارج، بينما هو لين من الداخل، فإذا أستمرينا في توجيه الخبطات تشققت ، وإذا استمرينا في قرعها ستتصدع وتنفجر في وجوهنا بعد أن نكون قد دمرناها، خاصة إذا كان المراهق قد خرج من المرحلة السابقة ضعيفا. فمرحلة المراهقة شديدة الحساسية تتطلب منا حذرا شديدا، ففي هذه الفترة لا نستطيع معاملته كطفل، وهو أيضا ليس برشيد فالطفل يبدو قوي من الخارج بينما هو هش من الداخل.
عزيزي المربي، اذا أخطأت فلا تترفع عن الاعتذار ، واشرح لطفلك بوضوح أن ما حدث كان خطأ ً لا ينبغي تكراره، فنحن لسنا آلهة ولا منزهين عن الخطأ، وسلوكك سيمثل نموذجا طيبا يحتذي به أولادك.
ليست هذه دعوة للتسيب والانفلات، كما قد يظن بعض منتقدي التربية الإيجابية، ولكنها دعوة للترفق، وفهم طبيعة الطفل، والتعقل في اختيارالأدوات التي نستخدمها معه، والاجتهاد ليصل كل منا لتلك المعادلة الصعبة من غرس القيم والدين والأخلاق والالتزام، وعدم محو الشخصية أو تدمير نفسية الطفل. فلا نترك الحبل على الغارب ولا نحرك أولادنا بال"ريموت كونترول"، وأن نعطيهم الخريطة ولا نحركهم عليها كقطع الشطرنج.
هذه دعوة للاحتواء وتوفير بيئة آمنة للأطفال ليزدهروا فيها، فالبيئة غير الآمنة للأطفال هي مصدر للأمراض النفسية والإدمان عافانا الله.
هذه دعوة لنكون مصدر حب ودعم وأمان لأبنائنا وليس مصدر نقد دائم، دعوة لأن نصادق أبنائنا، ليحكوا لنا بدلا من أن يحكوا عنا لغيرنا وسط دموعهم!