كنا ونحن صغار نردد فى قاعات الدرس أن «حجة البليد مسح التختة»، فالبليد يحب أن يدارى بلادته، وأن يظهر لمن حوله غير حقيقته.
ونحن نعرف أن النعامة حينما تلاقى خطراً، تسارع إلى دفن رأسها فى الرمال، ظناً منها أنها متى حجبت نفسها عن رؤية الخطر القادم، فإنها بدورها لا بد أن تكون قد اختفت عن عيون ذلك الخطر.
ويبدو أن منطق النعامة بإخفاء رأسها فى الرمال، قد صار أسلوباً يلجأ إليه البلداء والأنصاف فى الحياة العامة. وهذا الأسلوب أسلوب النعامة دال فى جميع الأحوال على خيبة تصور أن محاولة إخفاء المروم إخفاؤه، سوف تنطلى على الجميع مهما كانت محاولتها مكشوفة فى الحقيقة ولا يعز على أحد أن يراها مفضوحة أمامه، لا خفاء لها إلاَّ على من يتوهم أنه نجح فى إخفاء مراده على عموم الغير أو الفئة أو المجتمع!
ومن الظواهر المؤسفة أيضاً، أن يقع البعض أسرى لوهم أن الأكاذيب والخداع كافيان لدرء المطلوب درؤه، وعدم انكشاف ما عساه فيه من هبوط وانحراف وانحدار.
ويخطئ من يظن أن المهام والأعمال والإنجازات والحقائق والأدوار تنجز بالدعاوى والمخادعات مهما بلغت من التفاهة والتهافت والتـنافر والافتضاح. تابعت إبان يناير 2009 مشهداً غريباً ادعى فيه متقول لم يدرك أن الناس تفهم وتعى أنه لا بأس من اختيار وانتقاء وترسية بالأمر المباشر لجهة وحيدة فى عطاء كبير لجهة أموالها أموال عامة، وشأنها شأن عام، وأن البأس لم يأت هذا التصرف الجانح من قريب أو بعيد ما دامت الشركة المختارة المنتقاة بالأمر المباشر فوق مستوى الشبهات لأنها تتبع فيما يرى جهازاً حساساً كبيراً من أجهزة الدولة!
ويتجاهل المتقول أن تحريم الأمر المباشر فى العطاءات الكبرى لا يستهدف فقط حماية الجهة صاحبة العطاء؛ من ناحية قيمة العطاء، اتقاءً للانفراد بالعطاء وانعدام المنافسة، التى قد يؤدى غيابها إلى غياب الموضوعية فى تقدير التكاليف والالتزامات فى العطاء الذى انفرد بلا منافسة بتكليفه بالعطاء بالأمر المباشر.
فافتراض الشفافية والموضوعية والعدالة فى قيمة العطاء بالأمر المباشر، لا يعنى سداد هذا الأسلوب أو غلقه كل الأبواب التى يمكن أن يأتى فيها الضرر.
إن صاحب ومُصْدِر الأمر المباشر هو ذاته من أسباب تحريم الأمر المباشر فى العمليات الكبرى، فإذا كان باب التربح المادى مغلقاً لرسمية ونزاهة المرسى عليها العطاء بالأمر المباشر، فإن انفراد مُصْدِر الأمر المباشر يحمل مخاطر أخرى وغوايات أخرى بعيدة عن رسمية ونزاهة الجهة الصادر إليها الأمر المباشر.
إن التربح الذى جرمته المادة (115) من قانون العقوبات، هو للنفس أو للغير، فإذا ما افترضنا أن تربح الغير غير وارد لمتانة ورسمية ونزاهة المأمور بالأمر المباشر، فإن تربح «النفس»، نفس من أصدر القرار، هو إحدى صور تجريم هذه الجريمة.
يفوت صاحب أو أصحاب هذا المنطق من مصدرى الأوامر المباشرة فى العمليات الكبرى أن النص العقابى يجرم التربح للنفس، وليس هذا التربح للنفس مقصوراً على صورة التلقى المباشر ممن رسا عليه العطاء بالأمر المباشر حتى يكون التذرع برسميته وبعده عن الشبهات كافياً لقبول انفراد صاحب الأمر بإصدار الأمر المباشر، فقد تأتيه المنافع من أبواب أخرى بطريق غير مباشر، وعلى ذلك فإن اعتراض المشرع والقانون على «الأمر المباشر» فى العمليات الكبرى وإلى حد تجريمه والعقاب عليه لا يستهدف فقط الراسى عليه العطاء بالضرورة، وإنما يستهدف أيضاً وبالتأكيد من أصدر الأمر المباشر، وذلك حمايةً للمصلحة العامة من احتمال سعيه إلى تحقيق الربح لذاته، ذلك أن التقاضى سرَّاً من الراسى عليه العطاء بالأمر المباشر، ليس هو الباب الوحيد للانحراف، بل هناك أبواب ومنافذ أخرى للتربح والانحراف بعيداً عن الراسى عليه العطاء، ولا تغلق تلك الأبواب والمنافذ الأخرى لتربح من أصدر الأمر المباشر تربحاً مادياً وكذا أدبياً ومعنوياً.
ذلك أن جناية التربح التى جرمتها المادة (115) من قانون العقوبات تعاقب على كل ربح أو منفعة للنفس أو للغير، وللمنفعة معنى يجاوز الربح المادى إلى كل منفعة قد تكون مادية ومعنوية أو أدبية، ولذلك فإن من صور التربح للنفس أن يخطب المغرض ود ورضاء الجهات الرسمية بالترسية عليها بالأمر المباشر، أملاً فى أن تعطيه أو تيسر له الحصول على المكانة أو النفوذ أو المزايا والتقادير والصلات والمكانة والنفوذ، ولذلك لا يوجد فى مكانة الشركة المختارة المنتقاة المكلفة بالأمر المباشر بفرض هذه المكانة ما يدرأ الشكوك فى قصد الاستفادة الشخصية من الترسية بالأمر المباشر أو يحجب أغراض التربح للنفس بالحصول على المنافع الأدبية والمعنوية فى مثل هذه الأحوال!
هذه واحدة.. والثانية أنه فى مقابل التربح للنفس أو للغير، يوجد احتمال الإضرار بالمال العام.. فاستقامة الترسية بالأمر المباشر، وهذا غير جائز ما دامت مخالفة للقواعد والأصول، لا يدرأ بذاته احتمالات الإضرار بالمال العام.. فتعدد العطاءات الذى تتيحه المناقصات أو المزايدات حسب الأحوال، هو الذى يحقق المنافسة الجادة الحقيقية بين العطاءات، فيصب فى صالح الترسية بأفضل الأسعار وأقلها فى حالة المناقصة وأزيدها فى حالة المزايدة. والاختيار بالأمر المباشر، مهما كانت عناصره، هو حجب غير مشروع بل ومؤثم للتناضل والتنافس الحر بين أكثر من عطاء فى إطار إجراءات شفافة تضمن تحقيق أكبر العوائد للمال العام؛ وتقيه من الإضرار الذى يتسبب فيه بالتأكيد أسلوب الاختيار والانتقاء والترسية الانفرادية بالأمر المباشر!
أغرب الغرابة أن يجرى هذا الحديث الطائش من رجل قانون أو يقال لرجال قانون، ظناً أن الدنيا قد ساد فيها وماج حوار الطرشان ولم يعد أحد يبالى بما يقال ولا كيف يقال ولا بأى أسلوب ومنطق يقال، ويجدف به تجديفاً مؤسفاً فى المنتديات وعلى شاشات الفضائيات لتعم ثقافة الجهالة والخداع، ويضيع الفهم والوقار وسط الضجيج والصخب والشعارات!!
غير مقبول، تحت أى شعار، إدارة الشخصيات الاعتبارية العامة بمنطق التكايا والعزب والإقطاعيات!! فهذا الأسلوب هو أوسع أبواب العبث والانحراف.
فى المشروعات الخاصة، ملكية صاحب المشروع تحميه من أى احتمال للتفريط فى مال المشروع، فصاحب القرار هو صاحب المال، وملكيته ومصلحته الشخصية هى أمان قراره واختياره وترسيته للعطاءات!
والأمر على خلاف ذلك فى الكيانات العامة، فالمتنصب عليها يتصرف فى المال العام لا فى ماله، وهذه الحقيقة هى التى حدت بالمشرع إلى إصدار القوانين التى يجب أن تجرى عليها المناقصات والمزايدات، واللعب فى هذه الأمور خارج دائرة القانون وما ألزم به، هو فى ذاته جريمة، وباب لا ينغلق لتربح صاحب القرار وبطانته، وباب المنافع المادية والأدبية باب واسع، واللعب على أوتاره ينطلق بغير ضوابط وبلا قواعد، إذا ما أبيح الخروج على ما يلزم به القانون فى رعايته للمصلحة العامة، وللمال العام.
تجاهل هذه الحقائق عمى ضرير ولا يجدى فيه أسلوب النعامة، فالمغرض وشأنه فى دفن رأسه فى الرمال، ولكن الناس من حوله تبصر وترى وتحكم، وويل لكل منحرف من حكم التاريخ، حتى وإن أفلح فترة فى مداراة جرائره عن عيون الناس والسلطات!
تجاهل هذه الحقائق عمى ضرير ولا يجدى فيه أسلوب النعامة، فالمغرض وشأنه فى دفن رأسه فى الرمال، ولكن الناس من حوله تبصر وترى وتحكم، وويل لكل منحرف من حكم التاريخ، حتى وإن أفلح فترة فى مداراة جرائره عن عيون الناس والسلطات!