د. نظمى لوقا، أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة، فيلسوف ومفكر عبقرى مسيحى أرثوذكسى، ضرب مثالاً رائعاً للدنيا كلها فى التجرد وقبول الآخر وإنصافه ونبذ التعصب.
لم يمنعه معتقده الدينى المسيحى من إنصاف النبى محمد ورسالته، وذلك فى كتابيه «محمد الرسالة والرسول»، و«محمد فى حياته الخاصة»، فضلاً عن كتبه: «أبوبكر حوارى محمد»، «أنا والإسلام»، «الله الإنسان والقيمة»، فضلاً عن دواوين شعرية كثيرة. وضع منهجاً لحياته وهو محاربة الجهل والتعصب؛ لقناعته بخطرهما على الأمة كلها، واعتبر أن مهمته السامية تكمن فى التبصير ومحو الأمية الفكرية تجاه الإسلام ونبيه محمد، صلى الله عليه وسلم. وكان يقول: «إننى شديد الإيمان بروح ديانتى المسيحية ومبادئها ومثالياتها، والمحبة التى تعم العدو والصديق هى لباب هذه الديانة وبدونها تنحط الديانة إلى شعائر جوفاء»، ويقول أيضاً: «ولذا وجب علىَّ محاربة التعصب الذميم ومصدره، وهو التفكير الذاتى، فالمسيح يدعونى صراحة قبل أن أفكر فى إخراج القذى من عين سواى أن أجتهد أولاً فى إخراج الخشبة التى فى عينى أنا».
ومن أعظم كلماته التى تسجل بأحرف من نور: «لئن كنت أنصفت الإسلام فى كتاباتى، فليس ذلك من منطلق التخلى عن مسيحيتى، بل من منطلق الإخلاص لها والتمسك بجوهرها وأخلاقياتها.. ولذا يتعين علىَّ أن أواصل كفاحى لمحو الأمية الفكرية وانتمائى الوطنى والقومى والإنسانى». لاقى د. نظمى لوقا من أجل إنصافه هذا عنتاً شديداً فى حياته الأكاديمية والفكرية والإنسانية، فحاله كان أشبه بحال القابض على الجمر فى مواجهة الجامدين والمتعصبين الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً حوله. قدم لكتابه: «محمد الرسالة والرسول» عباقرة ثلاثة، هم: أمين الخولى، وفتحى رضوان، وكمال الدين حسين، وكلهم كان معجباً بفكر د. نظمى. والمتأمل فى كلمات د. نظمى عن الإسلام «الرسالة»، وعن محمد، صلى الله عليه وسلم، الرسول، يجدها أقوى بكثير من معظم كتابات المسلمين وأعمق منها وأدق، وهآنذا أسوق بعضها مختصراً: «لا أرى شريعة أدعى للإنصاف ولا أنفى للإجحاف والعصبية من شريعة تقول «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»، أجل نعدل ولا نجور، فذلك حق أنفسنا علينا، وضمائرنا علينا، قبل أن يكون حق هذا من الناس أو ذاك، وما أرى الشانئ «الكاره» يضير خصمه حين يجور عليه فى الحكم إلا كما يفقأ امرؤ عين نفسه كى لا يرى من يسوؤه مرآة».
ثم يردف قائلاًٍ: «ولست أنكر أن بواعث كثيرة فى صباى قربت بينى وبين هذا الرسول، ولا أنكر هذا الحب أو أتنكر له، بل إننى لأشرف به وأحمد له بوادره وعقباه، ولعل هذا الحب هو الذى يسر لى شيئاً من التفهم». ويقول عن كتابه عن الرسول محمد: «إنها شهادة حق أو رسالة حب أو تحية توقير وتبجيل، فما كان كآحاد الناس فى خلاله «صفاته» ومزاياه، وهو الذى اجتمعت له آلاء الرسل وهمة البطل».
ويقول عن الرسول: «رجل فرد هو لسان السماء، فوقه الله لا سواه، ومِن تحته سائر عباد الله من المؤمنين، ولكن هذا الرجل يأبى أن يداخله من ذلك كِبْر، بلْ يُشفق، بلْ يفرق من ذلك ويحشد نفسه كلها لحرب الزهو فى سريرته، قبل أن يحاربه فى سرائر تابعيه، ولو أن هذا الرسول بما أنعم من الهداية على الناس وما تمّ له من العزة والأيادى، وما استقام له من السلطان، اعتدّ بذلك كله واعتزّ، لما كان عليه جُناح من أحد؛ لأنه إنما يعتدّ بقيمة ماثلة، ويعتز بمزية طائلة». وتحدث عن مفهوم النبوة فى الإسلام وبشرية الرسول بكلمات رائعة: «لا تأليه ولا شبهة تأليه فى معنى النبوة الإسلامية، فالعبد عبد، والربّ ربّ، وقد درجت شعوب الأرض على تأليه الملوك والأبطال والأجداد، فكان الرسل أيضاً معرضين لمثل ذلك الربط بينهم وبين الألوهية بسبب من الأسباب، فما أقرب الناس لو تُرِكوا لأنفسهم أن يعتقدوا فى الرسول أو النبى أنه ليس بشراً كسائر البشر، وأن له صفة من صفات الألوهية على نحو من الأنحاء، ولذا نجد توكيد هذا التنبيه متواتراً مكرراً فى آيات القرآن، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ} وفى تخيُّر كلمة (مثلكم) معنى مقصود به التسوية المطلقة». ويتحدث عن تواضع الرسول فيقول: «إن لُباب المسألة كلّها أن الرسول كان أكبر من سلطانه الكبير، فعندما يدهش رجل بين يديه ويرتعش، يقول له: «هَوّن عليك، لستُ بملِك! إنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد بمكة»، إنَّ مجد هذه الكلمة وحدها يرجح بفتوح الغزاة كافة وأبّهة القياصرة أجمعين، أنت بأجمعك يا رسول الله فى هذه الكلمة وما أضخمها - أيها الصادق الأمين».
وتحدث عن أخلاقيات صاحب الرسالة، فقال: بحسب وصف زوجاته ناقلات سيرته وأحاديثه، فقد قالت له إحداهن: «والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق»، ووصفته أخرى، بقولها: «كان الرسول قرآناً يمشى على الأرض».
نظمى لوقا، رحمه الله، أعتبره من أعظم المفكرين المصريين والعرب، ورغم ذلك لم يعجب المتعصبين من الفريقين، وكان كل فريق يعتبره دسيسة على الآخر، إن كانت لى كلمة فى نهاية المقال فهى إعجابى بشخصية وفكر د. نظمى لوقا وتقديرى العظيم له، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.