شاهدت فرحة فى عينىّ أحد أولياء الأمور وهو يحكى إنجازه فى حجز مقعد لنجله فى مراكز الدروس الخصوصية للعام القادم، ودفع 7 آلاف جنيه كمقدم لـ7 مواد، فعل ذلك فى شهر يونيو وقبل امتحانات الثانوية على يبدأ نجله الدروس فى أغسطس.
هذا هو الواقع المرير الذى تعيشه الأسر المصرية، التى تعانى من ظروف اقتصادية صعبة ولكنها تقتطع من طعامها وعلاجها حتى تنفق على تعليم أولادها وتدفع أموالها غصباً إلى مافيا الدروس الخصوصية.
الدولة التى قضت فى 6 ساعات على أسطورة العدو الذى لا يقهر، ثم حفرت قناة السويس الجديدة خلال عام، وشيدت كل هذه النهضة فى الطرق والكبارى والمدن الجديدة، كما قضت على الإرهاب والجماعات المتطرفة والعشوائيات، أنا لا أتصور أن هذه الدولة القوية غير قادرة، وعاجزة أمام سرطان الدروس الخصوصية والقضاء عليها تماماً. هذا كلام كتبته أنا وغيرى عشرات بل مئات المرات، وكل عام نحلم بعدم كتابته والقضاء على هذا الكابوس، ولكن المشكلة تزداد تفاقماً.
المفترض أن خطة تطوير التعليم، كما أعلنها الوزير منذ سنوات، كانت تهدف لاستعادة دور المدرسة فى التربية والتعليم والقضاء على الدروس الخصوصية، ولكن واضح أن الأهالى فى وادٍ آخر، مشكلة الدروس يعانى منها كل بيت؛ الغنى والفقير، الوزير والخفير، طلاب المدارس الحكومية والخاصة والدولية والأزهرية وحتى الجامعات، وتستنزف ميزانية المواطنين، ولا أعرف هل سببها نظام التعليم أم ثقافة المجتمع أم الأهالى أم الطلاب أنفسهم؟! فمراكز (سناتر) الدروس الخصوصية تحتل عمارات كاملة مثل مدرجات الجامعة، بل أفضل، لأنها مكيفة الهواء ومزودة بشاشات عرض ومكبرات صوت وأجهزة حديثة للحضور والانصراف (البصمة) وكذلك مواصلات لنقل الطلاب من منازلهم.
منظومة متكاملة موازية وتتستر أحياناً خلف المساجد والجمعيات للحصول على تراخيص بمزاولة أنشطة خيرية، عدد الطلبة فى «السنتر» أضعاف الفصل المدرسى، ومع ذلك الطلاب يفضلونه ويكرهون المدرسة.. لماذا؟ أيضاً نفس المدرس يتقن عمله فى المراكز الخاصة عن المدرسة!! أما الكارثة الحقيقية أنها قضت تماماً على دور المدرسة وهيبة المدرس لأنه أصبح فى نظر الطالب سلعة يشتريها بأمواله، كما قضت على منظومة القيم والأخلاق التى كانت تغرسها المدرسة فى نفوس الأطفال منذ الصغر، ودمرت الأنشطة التى تشكل وجدانهم وتكتشف مواهبهم، أيضاً لا تسمح للطالب بالاستمتاع بحياته؛ فالعرض مستمر، قبل أن تنتهى الامتحانات تبدأ الدروس للعام التالى.
بدعوة من د. جمال شيحة، رئيس لجنة التعليم والبحث العلمى السابق فى مجلس النواب، حضرت ورشة عمل نظمتها المجموعة الاستشارية للتعليم والبحث العلمى بمشاركة نخبة متميزة من الخبراء طرحوا أفكار مهمة سوف يتم إرسالها للحوار الوطنى حول تطوير التعليم الفنى والتكنولوجى باعتباره طوق النجاة للاقتصاد، وأيضاً القضاء على بعبع الثانوية العامة التى هى السبب الرئيسى فى مشاكل التعليم، الأفكار مهمة ولكن الأهم تنفيذها على أرض الواقع.
القضاء على الدروس الخصوصية يكون من خلال إصلاح منظومة التعليم بالكامل؛ «مناهج ومدرسة ومدرس»، ويتحول من تعليم للحصول على شهادة لا تسمن ولا تغنى من جوع، إلى تعليم لبناء الإنسان الذى يبنى الأوطان.
الدولة أعلنت عن حاجتها لتعيين 30 ألف مدرس، وأتمنى قبل تعيين المدرسين أن يعود الطلاب للمدرسة.
الدولة قادرة على غلق «السناتر» ومحاكمة أصحابها، ولكن أين البديل؟ فالأهالى والطلاب يرونها الحل فى ظل غياب دور المدرسة.
أكرر ما اقترحته سابقاً فى الاستعانة بالقائمين على الدروس الخصوصية لإدارة العملية التعليمية لأنهم محترفون وأذكياء أو على الأقل يتولون إدارة البرامج التعليمية فى الفضائيات، قد تكون فكرة مجنونة ولكنها قابلة للتطبيق.
ختاماً.. إصلاح التعليم وعودة دور المدرسة لا يحقق النهضة فقط، بل بمثابة دعم نقدى كبير من الحكومة للشعب يتمثل فى توفير آلاف الجنيهات التى ينفقها المواطنون على الدروس الخصوصية والتعليم الخاص.