لقد استقر الفكر السياسى العالمى على أن دور الأحزاب السياسية حيوى وجوهرى فى تدعيم الديمقراطية ورفدها بأسباب التقدم فى معظم الأحيان، ومن جانب آخر، فإن حياة حزبية نشطة وفعالة تعنى توافر قدر من بدائل السياسات والحلول التى تحتاجها الدولة والمجتمع لمقاربة قضايا العمل الوطنى العام.
ومن الأخبار الجيدة التى طرأت على المجال السياسى أخيراً ما ظهر من اهتمام أمناء الحوار الوطنى بمناقشة دور الأحزاب فى المحور السياسى للحوار، الذى هو أحد محاوره الرئيسية الثلاثة، وهو الأمر الذى يعنى أن ثمة إمكانية لتفعيل عمل المنظومة الحزبية بما يتجاوز تعثراتها وخفوت تأثيرها.
وكانت مصر قد عرفت الحياة الحزبية فى مطلع القرن العشرين، عندما نشأ «الحزب الوطنى»، كتعبير مؤسسى، يتجاوب مع المطلب السياسى السائد آنذاك، وعنوانه: «الاستقلال».
ورغم اتساق تلك البداية المثيرة مع مطالب الأمة المصرية ونزوعها نحو الاستقلال عن الاحتلال البريطانى الذى جثم على صدرها، وأعاق نموها السياسى، وسلب إرادتها، فإن الحياة الحزبية النشطة لم تنجح فى إدراك الاستقلال، لأسباب عديدة.
والأحزاب السياسية المتعددة فكرة غربية، ذات نزوع ليبرالى بكل تأكيد، ورغم أن بريطانيا كانت من أولى دول العالم تأسيساً للأحزاب السياسية، فإن ذلك لم يمنع أن يكون أول حزب جماهيرى مصرى فاعل هو حزب «الوفد» الذى أنشأه الزعيم التاريخى سعد زغلول ورفاقه فى أعقاب ثورة 1919 للمطالبة باستقلال البلاد عن المحتل البريطانى.
شهدت مصر حياة حزبية نشطة فى كنف الاحتلال، ونشأ عدد كبير من الأحزاب التى استطاعت أن تشكل معالم ما عُرف لاحقاً بـ«الحقبة الليبرالية»، حيث كان بعضها مخلصاً لقضية التحرر من الاستعمار البريطانى، بينما كان بعضها الآخر يعكس توجهات أيديولوجية صارمة، مثل حزب «مصر الفتاة»، أو يتطلع إلى المنافسة من أجل الوصول إلى الحكم، من دون أن يمتلك قاعدة جماهيرية كتلك التى يمتلكها «الوفد».
لكن ذلك الحراك السياسى الحيوى، الذى أثمر إعلان دستور 1923، وبلور تجربة متكاملة فى المقاومة السياسية والتنافس من أجل الوصول إلى السلطة، شهد صدمة كبيرة أطاحت عالمه مع اندلاع ثورة 23 يوليو 1952.
رأت الثورة آنذاك أن الأحزاب أفسدت الحياة السياسية، وعطلت تحقيق أمل البلاد فى الاستقلال، وأغرقتها فى الفساد والمماحكات الانتخابية، التى فشلت فى مقابلة تطلعات الجماهير نحو الاستقلال أو التنمية.
ورغم أن الثورة أرست مبادئ ستة كدستور لعملها، وكان من بين تلك المبادئ «إقامة حياة ديمقراطية سليمة»، فإنها حظرت الأحزاب، وأنشأت لاحقاً حزباً واحداً، وأقامت حكماً شمولياً، حقق إنجازات ضخمة وملموسة، ومُنى بهزائم كارثية، لكنه لم يفتح الباب لإنشاء الأحزاب، ولا أرسى قواعد للمنافسة السياسية، أو تداول السلطة.
يربط علماء وباحثون بين التحديث والأحزاب السياسية، بوصفها آلية سلمية ناجعة لتحقيق المشاركة السياسية، وضمان المؤسسية، والتعبئة الاجتماعية، التى من دونها لا يمكن أن يتحقق التحديث، وفق ما يؤكد هنتنجتون.
وكما يؤكد الباحث السياسى موريس دوفرجيه، فإن التنظيم المؤسسى للأحزاب، وإرساء قواعد منافسة حزبية عادلة، يعززان القدرة على الحشد، وطرح البرامج، واستعراض البدائل، واختيار الأفضل بينها، بما يرسم صورة تتسم بالحداثة والليبرالية.
ربما كان هذا نفسه هو ما فكر فيه الرئيس الراحل أنور السادات، الذى فتح الباب لعودة الحياة الحزبية فى مصر، فى العام 1976، بعدما خرج منتصراً من حرب أكتوبر 1973، وأظهر ولعاً بالحصول على تقدير ومكانة وتعاون مميز من المعسكر الغربى.
لكن الحياة الحزبية التى أنشأها السادات كانت هشة وشكلية، بحيث فتحت الباب واسعاً لهيمنة حزب أوحد على شئون البلاد من جانب، ولم تترك للتيارات المعارضة وسيلة فعالة للتعبير عن رؤاها ومطالبها، وتركت الساحة مستباحة للتيار الدينى، الذى أفسد ما تبقى من الحالة السياسية، عبر استناده الأيديولوجى المخاصم للحداثة والديمقراطية، من جانب آخر.
لكن الانتفاضة التى اندلعت فى 25 يناير 2011 كانت بمنزلة زلزال حقيقى، أثمر انفجاراً حزبياً هائلاً، أدى إلى تلك الحصيلة الضخمة التى تجسدت فى أكثر من مائة حزب سياسى، يمكن ببساطة اعتبارها كماً لا كيفاً، لأنها بكل تأكيد تفتقد الفاعلية.
يؤكد علماء السياسة أن ثمة خمسة مؤشرات تحدد مدى فاعلية الحزب السياسى، أولها قدرته على المنافسة من أجل الوصول إلى السلطة، وثانيها أن يمتلك قاعدة جماهيرية معتبرة يمكن أن تسانده فى الانتخابات، وثالثها أن يطور برنامجاً سياسياً قابلاً للتنفيذ، ويتسم بالوضوح، والتمايز عن المنافسين، ورابعها أن يتوفر على درجة من المؤسسية والتنظيم الفعال، وخامسها أن يتمتع بالاستمرارية والتماسك.
حين نستخدم تلك المؤشرات الخمسة فى معاينة الحالة الحزبية المصرية الراهنة لا نجد أن الأحزاب السياسية، التى يتعدى عددها المائة حزب، تتسم بقدر ملائم من الفاعلية السياسية، وهو أمر أسهمت فيه الدولة، والمجتمع، وتلك الأحزاب نفسها.
وفى الحالة الحزبية الراهنة يندر جداً أن نجد حزباً يسعى إلى المنافسة على السلطة، أو يمتلك قاعدة جماهيرية صلبة، أو يطرح برامج متمايزة وقابلة للتنفيذ.
والحل أن يتم اندماج تلك الأحزاب فى خمسة أحزاب رئيسة كبرى، حزبين لليمين، وحزبين لليسار، وحزب للوسط.
لدينا فرصة كبيرة لمناقشة جادة لدور الأحزاب ومستقبلها فى الحوار الوطنى، والأمل أن يؤسس ذلك الحوار لدور أكثر فاعلية للأحزاب.